الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }

قوله عزّ وجلّ: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ } ، الآية. أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وهذا قول ابن عباس. وقال ابن مسعود: الأمانة: أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع. وقال مجاهد: الأمانة: الفرائض وحدود الدِّين. وقال أبو العالية: ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم: هو الصوم، والغسل من الجنابة، وما يخفى من الشرائع. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإِنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعتكها، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرِّجْل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهد، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن، فقلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً، وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله أن لا يقيموا بها لا معصية ولا مخالفة، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عزّ وجلّ مطيعة ساجدة له كما قال جلّ ذكره في السموات والأرض:ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَائِعينَ } [فصلت: 11]، وقال للحجارة:وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74] وقال تعالى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلاَْرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ } [الحج: 18] الآية. وقال بعض أهل العلم: ركّب الله عزّ وجلّ فيهنّ العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن. وقال بعضهم: المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض، عرضها على من فيها من الملائكة. وقيل: على أهلها كلها دون أعيانها، كقوله تعالى:وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]، أي: أهل القرية. والأول أصح، وهو قول العلماء. { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } ، أي: خففن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب، { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ } ، يعني: آدم عليه السلام، فقال الله لآدم: إني عرضت الأمانة على السمواتِ والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحملها آدم، وقال بين أذني وعاتقي، قال الله تعالى: أمّا إذا تحملت فسأعينك، أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى مالا يحل لك فأرخِ عليه حجابه، وأجعل للسانك لحيين غلقاً فإذا خشيت فأغلق، واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك.

السابقالتالي
2