الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

وهنا يُذكِّرهم سبحانه بمواكب الكفر التي صاحبت الرسل السابقين، وقد كانت هذه المواكب فيها المنافقون وفيها الكفار، وسبحانه وتعالى عندما يرسل رسولاً يؤيده ضد أعداء منهج الخير. والحق سبحانه يريدنا أن نتذكر ما حدث للأمم السابقة الذين كانوا أكثر قوة وأكثر أموالاً وأولاداً من أولئك الكفار والمنافقين الذين يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنقرأ قول الحق جل جلاله:وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ * وَٱللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 1-14]. ونحن لم نشهد { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } التي وصفها الحق سبحانه وتعالى بقوله: { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } ، ولكن القرآن أكد لنا أنها وصلت إلى درجة من الحضارة التي لم يصل إليها أحد. وقد يتساءل بعض الناس: أين { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } من حضارات اليوم؟. ونقول: إن هناك أسراراً لله في كونه قد أعطاها بعض خلقه ولم يُعْطِها لأحد حتى الآن. وإذا نظرنا إلى الفراعنة مثلاً نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم في القرآن بقوله: { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ }. والأهرامات أوتاد، والمسلات أوتاد، وما زالت علوم حضارة الفراعنة تغيب عن البشر حتى الآن، فهناك من مظاهر هذه الحضارة ما نعجز عنه حتى الآن، مثل سر التحنيط وبناء الأهرام فهذه الكتل الحجرية الضخمة التي ارتفعت ويمسك بعضها البعض، دون أية مواد مثبتة، وما زال العلم الحديث عاجزاً حتى اليوم عن أن يوجد هرماً مبنيّاً بنفس طريقة قدماء المصريين دون استخدام أي مواد مثبتة، ومع ذلك فهؤلاء الفراعنة لم يستطيعوا أن يسودوا الكون رغم قوتهم وحضارتهم، بل أخذهم الله أخْذَ عزيز مقتدر. وجاءت الرمال فدفنت حضارتهم. ثم شاء الله لنا أن نكشف عن جزء بسيط منها فإذا بهذا الجزء البسيط يبهر الدنيا كلها. وإذا بالعالم كله يأتي ليشاهد حضارة الفراعنة، ويتعجب من هذا الفن وهذا الرقي في العلم. فإذا كانت هذه هي حضارة آل فرعون، فما بالك بحضارة إرم ذات العماد التي لم يُخْلَق مثلها في البلاد؟ وهكذا نعلم أن بعض حضارة إرم ذات العماد ما زالت مخفية حتى الآن لا يعلم أحد عنها شيئاً. ومدفونة في باطن الأرض. ولعل الله سبحانه وتعالى قد أبقاها ليكشفها في زمن قادم يزداد فيه بُعْد الناس عن الدين لأن الإنسان كلما تقدم في الحضارة ابتعد عن الإيمان لإحساسه بأنه متمكن في الكون مسيطر عليه حينئذ ربما يكشف الحق سبحانه وتعالى عن حضارة { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } ليعرف الناس أن ما وصلوا إليه لا يساوي شيئاً مما كشفه الله لهؤلاء القوم.

السابقالتالي
2 3 4 5