الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

قيل هذا الخطاب التفات، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة، وأن يحقّ عليهم الخسران. فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب، تقديره أنتم كالذين من قبلكم، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر، أي فعلتم كفعل الذين من قبلكم، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب
حتّى إذا الكلاَّب قال لها كاليومِ مطلوباً ولا طالِبا   
أراد لم أر كاليوم، إلاّ أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت. وقيل هذا من بقية المَقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قولهقل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } التوبة 65 الآية. فيكون ما بينهما اعتراضاً بقولهالمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } التوبة 67 إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار. والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة. و { أشَدّ } معناه أقوى، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقولهأولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فصلت 15 أو يُراد بها العزّة وعُدّة الغلب باستكمال العَدد والعُدد، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز الــــ { أشد } كما أوقعت مضافاً إليه شديد في قوله تعالىعلمه شديد القوى } النجم 5. وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة منها طيب الأرض للزرع والغرس ورَعِي الأنعام والنحلِ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت. وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان، ومن حسن المُناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع. والاستمتاع التمتّع، وهو نوال أحدٍ المتاعَ الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالىولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف 24. والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع. والخلاق الحَظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالىفمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق } في سورة البقرة 200. وتفرّع فاستمتعوا بخلاقهم } على { كانوا أشد } لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي. وتفرَّع { فاستمتعتم بخلاقكم } على ما أفاده حرف الكاف بقوله { كالذين من قبلكم } من معنى التشبيه، ولذلك لم تعطف جملة { فاستمتعتم } بواو العطف، فإنّ هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة { فاستمتعوا بخلاقهم } لولا قصد الموعظة بالفريقين المشبّهِ بهم، والمشبّهين، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين، قصداً للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } ولم يذكر قبله { فاستمتعوا بخلاقهم } لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين.

السابقالتالي
2 3