الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

{ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي: أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم، أي: ممن أنعم عليهم ثم عذبوا، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } في أنفسهم { وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً } أي: تفيدهم مزيد قوة، ومنافع جمة { وَأَوْلاَداً } أي: تفيدهم مزيد قوة لا تفوت بفوات المال، ومنافع أخر { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } أي: انتفعوا بنصيبهم، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } أي: دخلتم في الباطل، كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج الذي خاضوا { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، أم في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك { وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي: الذين خسروا الدارين.

روى ابن جريج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " والذي نفسي بيده! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه ". قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب؟ قال: " فمن؟ " وفي رواية قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم القرآن: { كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ... } الآية (قال أبو هريرة: الخَلاقُ: الدين) قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال: " فهل الناس إلا هم؟ " وهذا الحديث له شاهد في الصحيح - أفاده ابن كثير.

لطيفة

قال الزمخشريّ: فإن قلت: أي: فائدة في قوله: { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ }؟ وقوله: { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن منه، كما أغنى قوله: { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع، ويهجن أمر الراضي به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماحة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } فمعطوف على ما قبله مستند إليه، مستغن، باستناده إليه، عن تلك التقدمة.

ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله:

{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَـٰبِ... }.