{ وَ } اذكروا أيضاً { إِذْ قُلْتُمْ } لموسى في التيه بعد إنزال المنّ والسلوى وانفجار العيون محولاً خالياً عن الإخلاص والمحبة، ناشئاً عن محض الفساد والغفلة وكفران النعمة: { يَٰمُوسَىٰ } على طريق سوء الأدب معه { لَن نَّصْبِرَ } معك في التيه { عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } وهذا غير ملائم لمزاجنا وطباعنا { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } الذي ادعيت تربيته لنا { يُخْرِجْ } يظهر ويهيئ { لَنَا } غذائنا { مِمَّا } من جنس ما { تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } التي هي معظم عنصرنا سواء كان { مِن بَقْلِهَا } خضرواتها التي يأكلها الناس للتفكه والتلذذ بحرافتها وحموضتها ومرارتها الملائمة لمزاجه { وَقِثَّآئِهَا } التي يتفكه بها لتبريد المزاج { وَفُومِهَا } حنطتها التي يتقوت بها لشدة ملاءمتها مزاجه، لذلك ما أزل الشيطان أباناً آدم إلا بتناولها { وَعَدَسِهَا } المعد لهضم الغذاء { وَبَصَلِهَا } التي تشتهيها النفوس المنتفرة عن الحلاوة والدسومة. فلما سمع موسى منهم ما قالوا آيس وقنط من صلاحهم وإصلاحهم { قَالَ } في جوابهم موبخاً لهم ومقرعاً: { أَتَسْتَبْدِلُونَ } أيها الناكبون عن طريق الحق، المائلون إلى الهوى { ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ } المخرج من الأدنى { بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وأعلى، المنزل من الأعلى، وأنا أستحي من الله سؤال ما سألتم { ٱهْبِطُواْ } انزلوا { مِصْراً } أرض العمالقة وديار الفراعنة { فَإِنَّ لَكُمْ } فيه { مَّا سَأَلْتُمْ } بالكد والفلاحة { وَ } بعدما ذلوا نفوسهم بطلب الأشياء الدنية الخسيسة { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } أعلمت وختمت عليهم { ٱلذِّلَّةُ } لخباثة نفوسهم وقساوة قلوبهم وتمكن النفاق في جبلتهم؛ لذلك ما ترى يهودياً إلا ذليلاً في نفسه خبيثاً في معاشه { وَ } ضربت عليهم أيضاً { ٱلْمَسْكَنَةُ } المذمومة المتفرعة على الذلة المتفرعة على الدناءة والخباثة { وَ } بعما ضربت عليهم الذلة { بَآءُو } صاروا مقارنين { بِغَضَبٍ } نازل { مِّنَ ٱللَّهِ } المطلع على ضمائرهم وسرائرهم { ذَلِكَ } السبب الموجب لنزول الغضب { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ } لخبث طبيعتهم وشدة نفاقهم وضغينتهم { يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } النازلة عليهم عطاء وامتنانً { وَ } مع ذلك لا يقنعون بكفران النعم بل { يَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ } المنبئين لهم عن قبح صنيعهم { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } الذي ظهر عندهم من الخبائث الموجبة للقتل بل { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ } عصياناً فاحشاً { وَّكَانُواْ } في ذلك العصيان { يَعْتَدُونَ } [البقرة: 61] يتجاوزون حدود الله عناداً واستكباراً. ولما بالغوا في الإعراض عن الله والتجاوز عن حدوده وكفران نعمه، وصاروا من إفراطهم مظنة ألاَّ يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح، تقاعد موسى - صلوات الله عليه - عن تبليغهم، وآيس عن اهتدائهم بالمرة.