الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

عطف هذا الكلام على تحذيره من قصّ الرؤيا على إخوته إعلاماً له بعلوّ قدره ومستقبل كماله، كي يزيد تملياً من سموّ الأخلاق فيتسع صدره لاحتمال أذى إخوته، وصفحاً عن غيرتهم منه وحسدهم إيّاه ليتمحّض تحذيره للصلاح، وتنتفي عنه مفسدة إثارة البغضاء ونحوها، حكمة نبويّة عظيمة وطبّاً روحانيّاً ناجعاً. والإشارة في قوله { وكذلك } إلى ما دلّت عليه الرؤيا من العِناية الربّانيّة به، أي ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربّك في المستقبل، والتّشبيه هنا تشبيه تعليل لأنّه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتّحاد العلّة. وموقع الجار والمجرور موقع المفعول المطلق لـــ { يجتبيك } المبيّن لنوع الاجتباء ووجهه. والاجتباء الاختيار والاصطفاء. وتقدّم في قوله تعالىواجتبيناهم } في سورة الأنعام 87، أي اختياره من بين إخوته، أو من بين كثير من خلقه. وقد علم يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ ذلك بتعبير الرؤيا ودلالتها على رفعة شأنه في المستقبل فتلك إذا ضُمّت إلى ما هو عليه من الفضائل آلت إلى اجتباء الله إياه، وذلك يؤذن بنبوءته. وإنّما علم يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ أنّ رفعة يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في مستقبله رفعة إلهية لأنّه عَلِمَ أن نعم الله تعالى متناسبة فلمّا كان ما ابتدأه به من النعم اجتباءً وكمالاً نفسيّاً تعيّن أن يكون ما يلحق بها، من نوعها. ثم إنّ ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوءة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ أنّ الله سيعلّم يوسف ـــ عليه السّلام ـــ من تأويل الأحاديث، لأنّ مسَبّبَ الشيء مسبّب عن سَبب ذلك الشيء، فتعليم التّأويل ناشىء عن التشبيه الذي تضمنه قوله { وكذلك } ، ولأنّ اهتمام يوسف ـــ عليه السّلام ـــ برؤياه وعرضها على أبيه دلّ أباه على أنّ الله أودع في نفس يوسف ـــ عليه السّلام ـــ الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها. وهذه آية عبرة بحال يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ مع ابنه إذ أشعره بما توسّمه من عناية الله به ليزداد إقبالاً على الكمال بقوله { ويتمّ نعمته عليك }. والتّأويل إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله. وتقدّم عند قوله تعالىوما يعلم تأويله إلاّ الله } سورة آل عمران 7. والأحاديث يصحّ أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام. وهو المعنى بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته، ويصحّ أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدّث به، فالتأويل تعبير الرؤيا. سمّيت أحاديث لأنّ المرائيَ يتحدثُ بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعضُ المفسرين. واستدلوا بقوله في آخر القصةوقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل }

السابقالتالي
2