الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }. الفتنة اضطراب الحال وفساده، وهي اسم مصدر فتجيء بمعنى المصدر كقوله تعالىوالفتنة أشد من القتل } البقرة 191 وتجيء وصفاً للمفتون والفاتن. ومعنى جَعلهم فتنة للذين كفروا جعلهم مفتونين يفتنُهم الذين كفروا، فيصدق ذلك بأن يتسلط عليهم الذين كفروا فيفتنون كما قال تعالىإن الذين فتنوا المؤمنين } البروج 10 الخ. ويصدق أيضاً بأن تختل أمور دينهم بسبب الذين كفروا، أي بمحبتهم والتقرب منهم كقوله تعالى حكاية عن دعاء موسىإن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } الأعراف 155. وعلى الوجهين فالفتنة من إطلاق المصدر على اسم المفعول. وتقدم في قوله تعالىربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } في سورة يونس 85. واللام في { للذين كفروا } على الوجهين للملك، أي مفتونين مسخرين لهم. ويجوز عندي أن تكون { فتنة } مصدراً بمعنى اسم الفاعل، أي لا تجعلنا فاتنين، أي سبب فتنة للذين كفروا، فيكونَ كناية عن معنى لا تغلِّب الذين كفروا علينا واصرف عنا ما يكون به اختلال أمرنا وسوءِ الأحوال كيلا يكون شيء من ذلك فاتناً الذين كفروا، أي مقوياً فتنتهم فيُفْتَتَنُوا في دينهم، أي يزدادوا كفراً وهو فتنة في الدين، أي فيظنوا أنا على الباطل وأنهم على الحق، وقد تطلق الفتنة على ما يفضي إلى غرور في الدين كما في قوله تعالىبل هي فتنة } في سورة الزمر 49 وقولهوإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين } في سورة الأنبياء111. واللام على هذا الوجه لام التبليغ وهذه معان جمّة أفادتها الآية. { وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ }. أعقبوا دعواتهم التي تعود إلى إصلاح دينهم في الحياة الدنيا بطلب ما يصلح أمورهم في الحياة الآخرة وما يوجب رضى الله عنهم في الدنيا فإن رضاهُ يفضي إلى عنايته بهم بتسيير أمورهم في الحياتين. وللإِشعار بالمغايرة بين الدعوتين عطفت هذه الواو ولم تعطف التي قبلها. { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }. تعليل للدعوات كلها فإن التوكل والإِنابة والمصير تناسب صفة { العزيز } إذ مثله يعامِل بمثل ذلك، وطلبَ أن لا يجعلهم فتنة باختلاف معانيه يناسب صفة { الحَكيم } ، وكذلك طلب المغفرة لأنهم لما ابتهلوا إليه أن لا يَجعلهم فتنة الكافرين وأن يغفر لهم رأوا أن حكمته تناسبها إجابة دعائهم لما فيه من صلاحهم وقد جاؤوا سائلينه.