الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالاً من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة. فهذا الكلام استئناف ابتدائي. ومُفَاتَحَة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يخاطَبوا طريقة عربية. روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال كنتُ عند النعمان فَنادَمْتُه وأَكَلْتُ معه فبينَا أنا على ذلك معه في قُبَّة إذَا رجلٌ يَرْتجز حولَها
أَصمَّ أمْ يَسمع ربُّ القبه يا أَوْهَبَ النَّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه ضَرَّابَةٍ بالمِشْغَرِ الأَذِبَّهْ ذَاتِ هِبابٍ في يَدَيْها خُلْبَهْ في لاَحب كأنَّه الأَطِبَّهْ   
فقال النعمان أليس بأبي أُمَامَة؟ كنية النابغة قالوا بلى، قال فأْذَنوا له فدخل. والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإِ من قوله { الحمد لله } إلى قوله { ملك يوم الدين } ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداءً من قوله { إياك نعبد } إلى آخر السورة، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتاً. وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة أحدهما رأي مَن عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبِّر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبِّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلاً عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها. ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسِّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته
طَحَا بكَ قلبٌ في الحسان طروب   
مخاطباً نفسه على طريقة التجريد، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي، فتسمية الالتفات التفاتاً على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه، وأما تسميته التفاتاً على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم. ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين، ولذلك كان قوله تعالى { إياك نعبد } التفاتاً على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله { إياك نعبد } تعْبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته. ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديدَ أسلوب التعْبير عن المعنى بعينه تحاشياً من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7