قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ } قال قتادة: هم اليهود. والنصيبُ الذي أوتوه: علمُهم بما في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ } يؤثرونها، ويرفضون ما كانوا عليه من الهدى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. قال الزجَّاج: يؤثرون التكذيب بالنبي عليه السلام، ليأخذوا على ذلك الرُّشا. { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ } أي: أن تخطئوا أيها المؤمنون طريق الهدى. قوله تعالى: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أي هو أعرف بهم منكم، فهو يُطلعكم عليهم، فجانبوهم، ولا تناصحوهم، ولا تصاحبوهم، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } فثقوا بولايته، ونصره لكم. قوله تعالى: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } قال الزجّاج: " مِن " صلة " الذين أوتوا الكتاب " ، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا. أو جملة مستأنفة، المعنى: من الذين هادوا قوم يُحرِّفون، فيكون قوله: " يُحرِّفون " صفة، ويكون الموصوف محذوفاً. وأنشد سيبويه:
وَمَا الدَّهْرُ إلا تَارَتَانِ، فَمِنْهُمَا
أَمُوتُ وَأُخْرى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ
المعنى: فمنهما تارة أموت فيها. وقال صاحب الكشاف هذا المعنى فأجاد، وزاد: " من الذين هادوا " بيانٌ للذين أوتوا نصيباً من الكتاب. قوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ } " وكفى بالله " جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل [الاعتراض]، أو بيان لـ " أعدائكم " ، وما بينهما اعتراض، أو صلة لـ " نصيراً " ، أي: ينصركم من الذين هادوا، كقوله:{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [الأنبياء: 77]. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، على أنّ " يُحرِّفون " صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يُحرِّفون، كقوله: - وأنشد البيت -:
وَمَا الدَّهْرُ..............
.....................
ومعنى: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } يميلونه ويزيلونه عنها؛ كما كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا، والسَّام عليك، وما حرّفوه أيضاً من التوراة، وغيَّروه من صفة النبي صلى الله عليه وسلم. { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وكانوا يجاهرون بالكفر، ويُعَرِّضون بالسبّ، فلذلك صرَّحوا بالعصيان ولوَّحوا بالسب في قولهم: { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا } ، فقوله: " غير مسمع " حال من المخاطب. قال ابن عباس: معناه: لا سمعت. كأنهم قالوا: اسمع منا مَدْعُوّاً عليك بالصُّمّ. وقال الحسن: المعنى: اسمع غير مقبول منك. فهذا مقصودهم، وباطن كلامهم، وظاهره: اسمع غير مُسمَع مكروهاً، فهو كلام ذو وجهين. وقيل: كانوا يقولون بألسنتهم: اسمع، وفي نفوسهم: لا سمعت. وهذا القول يأباه قوله: " لياً بألسنتهم " ، وقولهم: " راعنا " ، ودلالة الحال. وقد سبق في البقرة الكلام على " رَاعِنا ". قوله: { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } مصدر، أصله: لَوْياً، فأدغمت الواو في الياء.