الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ عن الله منهجه ومُؤيَّد بمعجزة تثبت صدقة فيما بلغ لِمَنْ أُرسِل إليهم. وقد حدَّث الحق سبحانه من قبل عمَّا حدث للأمم السابقةَ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان كل رسول يتكلم بلغة قومه. وهناك فرق بين قوم الدعوة وهم أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوم الاستقبال وهم الأمم السابقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فالأمم السابقة لم تكن مُطَالبةَ بأن تُبلِّغ دعوة الرُّسل الذين نزلوا فيهم، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمُطَالبة بذلك، لأن الحق سبحانه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغنا في القرآن أن من آياته سبحانه أن جعل الناس على ألسنة مختلفة. ولم يُكنْ من المعقول أن يرسل رسولاً يتكلم كل اللغات، فنزل صلى الله عليه وسلم في أمة العرب وحين استقبلوه وأُشرِبَتْ قلوبهم حُبّ الإيمان صار عليهم أن ينساحوا بالدعوة لينقلوا معنى القرآن حجة بعد أن استقبلوه معجزة. والقرآن حُجَّة لأنه يسوسُ حركة الحياة وحركاتُ الحياة لا تختلف في الناس أجمعين، كما أن كُلَّ حضارة تأخذ من الأخرى مُنجزاتِها العلمية، وتُترجمها إلى لسانها الذي تنطق به. وترجمة المعاني من لسان إلى آخر مسألة معروفة في كُلِّ حضارات العالم لأن المسألة في جوهرها مسألة معانٍ والمعاني لا تختلف من أمة إلى أخرى. والقرآن معانٍ ومنهج يصلح لكل البشر ونزل بالعربية لأن موهبة الأمة العربية هي النبوغ في اللغة والكلام وهكذا صار على تلك الأمة مهمة الاستقبال لمنهج الله كمعجزة بلاغية وإرساله إلى بقية المجتمعات. ولذلك تستطيع أن تَعقِد مقارنة بين البلاد التي فُتِحت بالسيف والقتال والبلاد التي فُتِحتَ بالسِّلْم ورؤية القدوة المسلَمة الصالحة ستجد أن الذين نشروا الإسلام في كثير من أصقاع الأرض قد اعتمدوا على القدوة الصالحة. ستجد أنهم نُقلوا الدين بالخِصَال الحميدة، وبتطبيق منهج الدين في تعاملهم مع غيرهم، ولذلك أقبل الناس على دين الله. وهكذا نجد أن منهج الإسلام قد حمل معجزة من المعاني، بجانب كونه معجزةً في اللغة التي نزل بها، وهي لغة العرب. ونحن نجد أقواماً لا تستطيع أن تقرأ حرفاً عربياً إلا في المصحف، ذلك أنهم تعلَّموا القراءة في المصحف، واعتمدوا على فَهْم المعاني الموجودة فيه عَبْر الترجمات التي قام بها مُسلِمون أحبُّوا القرآن، ونقلُوه إلى اللغات الأخرى. ولذلك نجد قول الحق سبحانه:وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 17]. وهكذا نعلم أن الحق سبحانه قد يسَّر أُمَّ القرآن بلسان العرب أولاً، ثم يسرَّه بأن جعل من تلك الأمة التي نزل عليها القرآن أمة نَشرْ البلاغ عنه سبحانه، ذلك أن الرسالات تُريد تبليغاً والتبليغ وسيلتُه الأولى هي الكلام ووسيلته الثانية الاستقبالية هي الأذن، فلا بُدَّ من الكلام أولاً، ثم لا بُدَّ من أُذن تعرف مدلولاتِ الألفاظ لتسمعَ هذا الكلام، ولِتُطبّقه سلوكاً.

السابقالتالي
2 3