قال المفسِّرون: فلما عاين زكريا هذه الآية، ورأى خَرْقَ الله العادة بإيجاد الفاكهة في غير أوانها، طمع في الولد على الكبر، فذلك قوله: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ }. قال المفضل: أكثر ما يقال " هنالك " في الزمان، و " هناك " في المكان، وقد يُجعل هذا مكان هذا. وقال غيره: يستعار: هنا، وثمَّ، وحيث، للزمان. وجائز أن يكون معنى " هنالك ": في ذلك المكان عند مريم في المحراب. وجائز أن يكون في ذلك الوقت. والذُرِّية تقع على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، والمراد هنا واحد، بدليل قوله:{ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم: 5]، وأَنَّثَ " طَيِّبَةً " لتأنيث لفظ الذُرِّية. و " سميع " بمعنى: سامع أو مجيب. قوله تعالى: { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } قرأ حمزة والكسائي: " فناداه " ، بألف ممالة. وقرأ الباقون: فنادته. قال أبو علي: من قرأ " فناداه " ، فهو كقوله:{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } [يوسف: 30]. وقال غيره: الذي ناداه: جبريل، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود: " فناداه جبريل " ، فيكون الجمع على قراءتهما للتعظيم، أو لبيان أن النداء جاء من ذلك الجنس، كما تقول: ركبت السفن. وسُمِّيَ المحراب محراباً؛ لشرفه، كما ذكرنا، أو لمحاربة الشيطان فيه. { أَنَّ اللَّهَ } قرأ ابن عامر وحمزة: " إن الله " بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لأن النداء في معنى القول. وقرأ الباقون بالفتح، على معنى: نادته بأن الله. فلما حذف الحرف الجار وصل الفعل فنصب. قرأ حمزة: " يَبْشُرُكَ " بالتخفيف في كل القرآن، إلا في قوله:{ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [الحجر: 54]. ووافقه الكسائي على التخفيف في خمسة مواضع: في آل عمران موضعان، وفي " سُبْحَانَ " موضع، وفي الكهف موضع، وفي الشورى موضع، وشدَّد ذلك الباقون، غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا التي في الشورى، وهما لغتان مشهورتان. يقال: بَشَّر يُبشِّرُ تَبشيراً، وبَشَر يَبْشُرُ بَشْراً وبُشُوراً. وأنشد الفرَّاء للأعشى:
وَإِذا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إِلى النَّدَى
غُبْراً أَكُفُّهُمُ بقَاعٍ مُمْحِلِ
فَأَعِنْهُمْ وابْشِرْ بما بَشِرُوا بهِ
وَإِذا هُمُ نَزَلُوا بضَنْكٍ فَانْزِلِ
وقد ذكرنا معنى البشارة في البقرة. قال المفسرون: رأى زكريا جبريل في صورة شاب عليه ثياب بياض، فناداه: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ }. وهو اسم أعجمي، وقيل: عربي، ومنعه الصرف: التعريف وصيغة الفعل. قال ابن عباس: أحيا الله قلبه بالإيمان. وقال في رواية: أحيا به عقر أمه. { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي: مؤمناً بعيسى، فإنه أوّل مَن آمن به، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر. وقيل: قبل رفع عيسى إلى السماء. وسُمِّي عيسى " كلمة "؛ لتكوينه بها من غير أب.