لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون، فقال: { إن للمتقين }: أي الكفر، { جنات النعيم }: أضافها إلى النعيم، لأن النعيم لا يفارقها، إذ ليس فيها إلا هو، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش: إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ، فنزلت: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين }. وقال مقاتل: قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة، وإلا فالمشاركة، فأجاب تعالى: { أفنجعل }: أي لا يتساوى المطيع والعاصي، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال: { ما لكم } ، أي: أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال: { كيف تحكمون } ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله: { ما لكم } استفهام عن كينونة مبهمة، وفي { كيف تحكمون } استفهام عن هيئة حكمهم. ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال: { أم لكم } ، أي: بل ألكم؟ { كتاب } ، أي من عند الله، { تدرسون } أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأ الجمهور: { إن لكم } بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى: إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل: أن معمولة لتدرسون، أي تدرسون في الكتاب أن لكم، { لما تخيرون }: أي تختارون من النعيم، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وبدأ به وقال: ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو، كقوله:{ وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح } [الصافات: 78 - 79] انتهى. وقرأ طلحة والضحاك: أن لكم بفتح الهمزة، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ{ الا أنهم ليأكلون الطعام } [الفرقان: 20] بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج: أإن لكم على الاستفهام. { أم لكم أيمان }: أي أقسام علينا، { بالغة }: أي متناهية في التوكيد. يقال: لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو ببالغة: أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه. وقرأ الجمهور: { بالغة } بالرفع على الصفة، والحسن وزيد بن علي: بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا. وقال ابن عطية: حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً. { إن لكم لما تحكمون }: جواب القسم، لأن معنى { أم لكم أيمان علينا }: أم أقسمنا لكم، قاله الزمخشري. وقرأ الأعرج: أإن لكم عليّ، كالتي قبلها على الاستفهام. { سلهم أيهم بذلك زعيم }: أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء، كما قال تعالى: