الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ }

أي العذاب الذي عم القوم بعد الخاص الذي طمس أعين البعض، وفيه مسائل: المسألة الأولى: { صَبَّحَهُم } فيه دلالة على الصبح، فما معنى: { بُكْرَةً }؟ نقول: فائدته تبيين انطراقه فيه، فقوله: { بُكْرَةً } يحتمل وجهين أحدهما: أنها منصوبة على أنها ظرف، ومثله نقوله في قوله تعالى:أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1] وفيه بحث، وهو أن الزمخشري قال: ما الفائدة في قوله: { لَيْلاً } وقال: جواباً في التنكير دلالة على أنه كان في بعض الليل، وتمسك بقراءة من قرأ: { مِّنَ ٱلَّيْلِ } وهو غير ظاهر، والأظهر فيه أن يقال: بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تعيين الوقت ليس بمقصود المتكلم وأنه لا يريد بيانه، كما يقول: خرجنا في بعض الأوقات، مع أن الخروج لا بد من أن يكون في بعض الأوقات، فإنه لا يريد بيان الوقت المعين، ولو قال: خرجنا، فربما يقول السامع: متى خرجتم، فإذا قال: في بعض الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته، فكذلك قوله تعالى: { صَبَّحَهُم بُكْرَةً } أي بكرة من البكر و { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } أي ليلاً من الليالي فلا أبينه، فإن المقصود نفس الإسراء، ولو قال: أسرى بعبده من المسجد الحرام، لكان للسامع أن يقول: أيما ليلة؟ فإذا قال: ليلة من الليالي قطع سؤاله وصار كأنه قال: لا أبينه، وإن كان القائل ممن يجوز عليه الجهل، فإنه يقول: لا أعلم الوقت، فهذا أقرب فإذا علمت هذا في أسرى ليلاً، فاعلم مثله في: { صَبَّحَهُم بُكْرَةً } ويحتمل أن يقال: على هذا الوجه: { صَبَّحَهُم } بمعنى قال لهم: عموا صباحاً استهزاء بهم، كما قال:فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] فكأنه قال: جاءهم العذاب بكرة كالمصبح، والأول أصح، ويحتمل في قوله تعالى: { صَبَّحَهُم بُكْرَةً } على قولنا: إنها منصوبة على الظرف مالا يحتمله قوله تعالى: { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } وهو أن: { صَبَّحَهُم } معناه أتاهم وقت الصبح، لكن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار، فإذا قال: { بُكْرَةً } أفاد أنه كان أول جزء منه، وما أخر إلى الإسفار، وهذا أوجه وأليق، لأن الله تعالى أوعدهم به وقت الصبح، بقوله:إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } [هود: 81] وكان من الواجب بحكم الإخبار تحققه بمجيء العذاب في أول الصبح، ومجرد قراءة: { صَبَّحَهُم } ما كان يفيد ذلك، وهذا أقوى لأنك تقول: صبيحة أمس بكرة واليوم بكرة، فيأتي فيه ما ذكرنا من أن المراد بكرة من البكر الوجه الثاني: أنها منصوبة على المصدر من باب ضربته سوطاً ضرباً فإن المنصوب في ضربته ضرباً على المصدر، وقد يكون غير المصدر كما في ضربته سوطاً ضرباً، لا يقال: ضرباً سوطاً بين أحد أنواع الضرب، لأن الضرب قد يكون بسوط وقد يكون بغيره، وأما: { بُكْرَةً } فلا يبين ذلك، لأنا نقول: قد بينا أن بكرة بين ذلك، لأن الصبح قد يكون بالإتيان وقت الإسفار، وقد يكون بالإتيان بالأبكار، فإن قيل: مثله يمكن أن يقال: في { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } قلنا: نعم، فإن قيل: ليس هناك بيان نوع من أنواع الإسراء، نقول: هو كقول القائل: ضربته شيئاً، فإن شيئاً لا بد منه في كل ضرب، ويصح ذلك على أنه نصب على المصدر، وفائدته ما ذكرنا من بيان عدم تعلق الغرض بأنواعه، وكأن القائل يقول: إني لا أبين ما ضربته به، ولا أحتاج إلى بيانه لعدم تعلق المقصود به ليقطع سؤال السائل: بماذا ضربه بسوط أو بعصا، فكذلك القول في: { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } يقطع سؤال السائل عن الإسراء، لأن الإسراء هو السير أول الليل، والسرى هو السير آخر الليل أو غير ذلك.

السابقالتالي
2