قوله - عز وجل -: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ * وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أفرأيت الذي تولى كبراء الكفرة وعظماءهم، وأعطى قليلا من المال لضعفة أهل الإيمان؛ ليرجعوا عن الإيمان بمحمد والتصديق له، ويكذبوا عليه. وقوله: { وَأَكْدَىٰ } أي: قطع عنهم في وقت أيضاً. وكذا قال القتبي: { وَأَكْدَىٰ } أي: قطع، وهو من كدية الركية، وهي الصلابة فيها إذا بلغها الحافر يئس من حفرها؛ فقطع الحفر. وقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلغ، أو أعطى فلم يتمم: أكدى. وقال أبو عوسجة: أكدى: بخل، ورجل مكدٍ: بخيل. وقوله: { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } ، فهو - والله أعلم -: أعنده علم الغيب؛ فيأمر بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويأذن له بالتولي عنه، وإعطاء المال على التكذيب له؛ أي: ليس عنده علم الغيب؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل والكتب، وأسباب العلم هذا. وقوله - عز وجل -: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } ، كأن هذا مقطوع من الأول؛ كأن أولئك الكفرة يقولون لأتباعهم: إنا نتحمل عنكم الظلم والوزر؛ فلا تأتوا محمداً ولا تصدقوه؛ كقوله - تعالى - حكاية عنهم:{ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [العنكبوت: 12]، فقال عند ذلك: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } ، أي: قد بينا في صحفهما: ألا تزر وازرة وزر أخرى. وقيل: إنما سمي: وفيّاً؛ لأنه بلغ ما أمر بتبليغه. وقيل: لأنه كان يصلي أربع ركعات عند الضحى، وعلى ذلك يروون خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتدرون ما وفى؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، [قال]: " وَفَّى أربع ركعات [عند] الضحى ". فإن ثبت هذا اكتفي عن [أي] تأويل آخر، وأصله: أنه سماه: وفيّاً؛ لما قام بوفاء ما أمر به. وقوله - عز وجل -: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } فيه أن هذا في الكتب كلها: في صحف إبراهيم، وموسى، وغيرهما من الكتب: ألاَّ يحمل أحد وزر آخر، إنما يحمل وزر نفسه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لا يؤخذ الرجل بذنب غيره. وعن عمرو بن أوس قال: كان الرجل يؤخذ في الجاهلية بذنب غيره حتى نزلت الآية. وقوله - عز وجل -: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ... } الآية. يشبه أن يكون قوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي: ليس على الإنسان إلا ما سعى؛ لأنه - جل وعلا - يثيب ويعطي الزيادة على ما سعى بفضله وكرمه؛ كقوله - تعالى -: