الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ }

والمراودة من الرود، ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين يقال: طالب زيد عمراً بالدراهم، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل يقال: راوده عن المساعدة، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بعن، والمطالبة بالباء، وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال، فإذا قلت: أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين بخلاف ما إذا قيل عن كذا، ويزيد هذا ظهوراً قول القائل: أخبرني زيد عن مجيء فلان، وقوله: أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء والضيف يقع على الواحد والجماعة، وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم، وهي أنهم كانوا مفسدين وسمعوا بضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم. وقوله: { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } نقول: إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم، وفي الآية مسائل: الأولى: الضمير في راودوه إن كان عائداً إلى قوم لوط فما في قوله: { أَعْيُنَهُمْ } أيضاً عائداً إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم وهم الذين دخلوا دار لوط، وإن كان عائداً إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه؟ نقول: المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل: الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائداً إلى الذين صلوا بعدما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا فصحت صلاتهم لم يكن كلاماً منظوماً ولو قلت الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام، فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله: { رَاوَدُوهُ } والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر. المسألة الثانية: قال ههنا: { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } وقال في يۤس:وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } [يـۤس: 66] فما الفرق؟ نقول: هذا مما يؤيد قول ابن عباس فإنه نقل عنه أنه قال: المراد من الطمس الحجب عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً فكانوا كالمطموسين، وفي يۤس أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة، أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على العين جلدة فيكون قد طمس عليها، وقال غيره: إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة، ويؤيده قوله تعالى: { فَذُوقُواْ عَذَابِى } لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئاً هناك لا يكون ذلك عذاباً والطمس بالمعنى الذي قاله غير ابن عباس عذاب، فنقول: الأولى أن يقال: إنه تعالى حكى ههنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع، وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ويعرف به وهو الطمس على العين، لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال:

السابقالتالي
2