الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ }

قوله: { جِمَالَةٌ }: قرأ الأخَوان وحَفْصٌ " جِمالَةٌ ". والباقون " جِمالات ". فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة، قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً لـ " جِمالة " هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً لـ جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً لـ جَمَل المفردِ كقولهم: " رجِالات قريش " كذا قالوه. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه:
4459ـ إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ   ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع " بُوقاً " على " بُوقات " مع قولِهم: " أَبْواق " ، فكذلك جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك، ويَجْعَلُ نحو ": حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم يُكَسَّرْ.

وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ. وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ " جُمْلة " لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ " جُمالات " جمعَ جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ. والثاني: أنَّ " جُمالات " جمعُ جُمالة قاله الزمخشري، وهو ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ " جُمالة " بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً.

قوله: { صُفْرٌ } صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء. والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ: " وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ:
4460ـ دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ   بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري:
4461ـ حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى   تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه: " حمراءُ " توطئةً لها ومناداةً عليها، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ ـ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن ـ عن قولِه عزَّ وجلَّ: " كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ " فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات ـ وهي القُلُوسُ ـ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ " انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ: " شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان " قلت: الأَفْدانُ: القصورُ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة:
4462ـ فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها   فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ