الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }

[28] { ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [29] { ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحٰتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ } اعلم أن قوله: { الذين آمنوا } بدل من قوله: { من أناب } قال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت. فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال:إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [الأنفال: 2] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان؟ والجواب من وجوه: الأول، أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر، لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي،وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات. الثاني: أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً من عند الله. أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم. الثالث: أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا. واعلم أن لنا في قوله: { ألا بذكر تطمئن القلوب } أبحاثاً دقيقة غامضة وهي من وجوه: الوجه الأول: أن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يتأثر، ومتأثر لا يؤثر، وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء، فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى، والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم، فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية، وليس له خاصية إلا القبول فقط. وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر أخرى، فهي الموجودات الروحانية، وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده وإذا توجهت إلى عالم الأجسام اشتقات إلى التصرف فيها، لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام. وإذا عرفت هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها، أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية، فهناك يكون ساكناً فلهذا السبب قال: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب }. الوجه الثاني: أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف منها، لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة.

السابقالتالي
2