الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ }

وقد بينا ذلك في سورة الطور واستدللنا بهذه الآية ونذكر ما يقرب منه ههنا فنقول { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ } هم الذين لا يؤمنون بالرسل ولا يتبعون الشرع، وإنما يتبعون ما يدعون أنه عقل فيقولون أسماء الله تعالى ليست توقيفية، ويقولون الولد هو الموجود من الغير ويستدلون عليه بقول أهل اللغة: كذا يتولد منه كذا، يقال الزجاج يتولد من الآجر بمعنى يوجد منه، وكذا القول في بنت الكرم وبنت الجبل، ثم قالوا الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال سجدت الملائكة فقالوا: بنات الله، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنثَىٰ } أي كما سمي الإناث بنات. وفيه مسائل: المسألة الأولى: كيف يصح أن يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه؟ فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أنهم لما كانوا لا يجزمون به كانوا يقولون لا حشر، فإن كان فلنا شفعاء يدل عليه قوله تعالى:وَمَا أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَىٰ رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50] ثانيهما: أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الحق وهو ما ورد به الرسل. المسألة الثانية: قال بعض الناس أنثى فعلى من أفعل يقال في فعلها آنث ويقال في فاعلها آنث يقال حديد ذكر وحديد أنيث، والحق أن الأنثى يستعمل في الأكثر على خلاف ذلك بدليل جمعها على إناث. المسألة الثالثة: كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث؟ نقول عنه جوابان أحدهما: ظاهر والآخر دقيق، أما الظاهر فهو أن المراد بيان الجنس، وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لما جاء على وفقه آخر الآيات. والدقيق هو أنه لو قال يسمونهم تسمية الإناث كان يحتمل وجهين: أحدهما: البنات وثانيهما: الأعلام المعتادة للإناث كعائشة وحفصة، فإن تسمية الإناث كذلك تكون فإذا قال تسمية الأنثى تعين أن تكون للجنس وهي البنت والبنات، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما قيل لهم إن الصنم جماد لا يشفع وبيّن لهم إن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا نحن لا نعبد الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعباتها فإنها على صورها وننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد والغائب، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم الشأن رفيع المكان فقال تعالى رداً عليهم كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الأنثى، ثم ذكر فيه مستندهم في ذلك وهو لفظ الملائكة، ولم يقل إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى بل قال: { لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } فإنهم اغتروا بالتاء واغترارهم باطل لأن التاء تجيء لمعان غير التأنيث الحقيقي والبنت لا تطلق إلا على المؤنث الحقيقي بالإطلاق والتاء فيها لتأكيد معنى الجمع كما في صياقلة وهي تشبه تلك التاء، وذلك لأن الملائكة في المشهور جمع ملك، والملك اختصار من الملأك بحزف الهمزة، والملأك قلب المألك من الألوكة وهي الرسالة، فالملائكة على هذا القول مفاعلة، والأصل مفاعل ورد إلى ملائكة في الجمع فهي تشبه فعائل وفعائلة، والظاهر أن الملائكة فعائل جمع مليكي منسوب إلى المليك بدليل قوله تعالى: { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } في وعد المؤمن، وقال في وصف الملائكة

السابقالتالي
2 3