قوله تعالى: { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } وكذلك الاثنان والجماعة، والذكر والأنثى [يقولون: نحن البراء منك، والخلاء منك] لا يقولون: نحن البراءان منك ولا البراؤون. وإنما المعنى: أنا ذو البراء منك، ونحن ذو البراء منك، كما تقول: رجل عدل، وامرأة عدل، وقوم عدل. قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } مثل قوله تعالى في الشعراء:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77]، وقد تكلمنا عليه. قال الزمخشري: " الذي فطرني " فيه غير وجه: أن يكون منصوباً على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين. وأن يكون مجروراً بدلاً من المجرور بـ " مِنْ "؛ كأنه قال: [إنني] براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. فإن قلت: كيف تجعله بدلاً وليس من جنس " ما تعبدون " من وجهين: أحدهما: أن ذات الله تعالى مخالفة لجميع الذوات، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون. الثاني: أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة؟ قلتُ: قالوا: كانوا يعبدون الله تعالى مع آلهتهم، وأن تكون " إلا " صفة بمعنى: غير، على أن " ما " في [ما] تعبدون موصوفة، تقديره: إنني براء من [آلهة] تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22]. قلتُ: ما معنى قوله تعالى: { سَيَهْدِينِ } على التسويف؟ قلتُ: قال مرّة:{ فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78] ومرّة { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } ، فاجمع بينهما وقدر، كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال. قوله تعالى: { وَجَعَلَهَا } أي: وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها -وهي قوله تعالى: { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } - { كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي: في ذريته، فلا يزال فيهم من يُوحِّد الله تعالى ويدعو إلى التوحيد. وقيل: وجعل الوصية التي أوصى بها بنيه، وهي الوصية المذكورة في البقرة:{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [البقرة: 132]. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى التوحيد إذا علموا أن أباهم تبرَّأ من كل معبود سوى الله تعالى. قوله تعالى: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ } أي: أجزلتُ لقريش النِّعَم وأمهلتهم { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } وهو القرآن { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } للحق من الباطل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. المعنى: فكان ينبغي لهم أن ينتبهوا من غفلتهم عند مجيء الحق والرسول. { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } ضَمُّوا إلى شركهم وغفلتهم المعاندة، فذلك قوله تعالى: { قالوا سحر }. قال قتادة في قوله تعالى: { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } هم اليهود والنصارى. وفيه بُعْد.