* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق
قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِيمَ فِي رِبِّهِ... } الآية: { أَلَمْ تَرَ }: تنبيهٌ، وهي رؤية القَلْب، والَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، هو نُمْرَوذُ بْنُ كَنْعَانَ مَلِكُ زمانه، وصاحبُ النَّار، والبَعُوضَةِ، قاله مجاهد وغيره، قال قتادة: هو أولُ من تجبَّر، وهو صاحبُ الصَّرْح بِبَابِلَ، قيل: إِنه مَلكَ الدُّنْيَا بأجمعها، وهو أحد الكَافِرَيْنِ، والآخر بُخْتَ نَصَّرَ، وقيل: إِن النُّمْرُوذَ الذي حاجَّ إِبراهيم هو نُمْرُوذُ بْنُ فَالخ، وفي قصص هذه المحاجَّة روايتان.
إحداهما: ذكر زيْد بن أسْلم أنَ النُّمْروذ هذا قَعَدَ يأمر للنَّاس بالميرة، فكلَّما جاء قومٌ، قال: مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكِمْ، فيقولُونَ: أَنْتَ، فيقولُ: مِيرُوهُمْ، وجاء إِبراهيم - عليه السلام -، يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِـــي وَيُمِيتُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِـــي وَأُمِيتُ، فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ الشَّمْسِ؛ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ: لاَ تُمِيرُوهُ، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ دُونَ شَيْءٍ، فَمَرَّ عَلَىٰ كَثِيبٍ رَمْلٍ؛ كَالدَّقِيقِ، فَقَالَ: لَوْ مَلأْتُ غَرَارَتِي مِنْ هَذَا، فَإذَا دَخَلْتُ بِهِ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ؛ حَتَّىٰ أَنْظُرَ لَهُمَا، فَذَهَبَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ، وَجَعَلاَ يَلْعَبَانِ فَوْقَ الغِرَارَتَيْنِ، وَنَامَ هُوَ مِنَ الإِعْيَاءِ، فَقَالَتِ ٱمْرَأَتُهُ: لَوْ صَنَعْتُ لَهُ طَعَاماً يَجِدُهُ حَاضِراً، إِذَا ٱنْتَبَهَ، فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ، فَوَجَدَتْ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحَوَارِيِّ، فَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا قَامَ، وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي سُقْتَ، فَعَلِمَ إِبْرَاهِيمُ؛ أنَّ اللَّه يسَّر لَهُمْ ذَلِكَ.
وقال الربيعُ وغيره في هذا القصص: إِن النُّمروذَ لَمَّا قال: أنَا أُحْيِـــي وأُمِيتُ، أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَتَل أحَدَهُمَا، وأَرْسَلَ الآخَرَ، وقَالَ: قَدْ أحْيَيْتُ هَذَا، وأَمَتُّ هذا، فردَّ علَيْهِ إِبراهيمُ بأمْرِ الشمْسِ.
والروايةُ الأخرَىٰ: ذكر السُّدِّيُّ؛ أنه لما خَرَجَ إِبراهيمُ من النَّار، وأُدْخِلَ على المَلِكِ، قالَ له: مَنْ ربُّكَ؟ قَالَ: ربِّيَ الَّذِي يُحْيِـــي ويُمِيتُ.
يقالُ: بُهِتَ الرَّجُلُ، إِذا انقطعَ، وقامَتْ عليه الحُجَّةُ.
وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }: إِخبارٌ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنَىٰ: لا يرشدهم في حججهم على ظُلْمهم، وظاهر اللفْظ العمومُ، ومعناه الخصوصُ؛ لأنَّ اللَّه سبحانه قد يَهْدي بعْضَ الظالمينَ بالتَّوْبة والرجوع إِلى الإِيمان.
قوله تعالى: { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا... } الآية: عطفت «أوْ» في هذه الآية على المعنى الَّذِي هو التعجُّب في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَاجَّ }.
قال ابن عبَّاس وغيره: الذي مَرَّ على القَرْيَة هو عُزَيْرٌ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ وغيره: هو أَرْمِيَا، قال ابن إِسحاق: أَرْمِيَا هو الخَضِرُ، وحكاه النَّقَّاش عن وهْب بن منَبِّه.
وٱختلف في القَرْيَةِ، مَا هِيَ؟ فقِيلَ: المُؤْتَفِكَةُ، وقال زيْدُ بن أسلم: قريةُ الَّذين خَرَجُوا مِنْ ديارهم، وهم أُلُوفٌ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ، وقتادة، والضَّحَّاك، والرَّبيع، وعِكْرِمَة هي بَيْت المَقْدِسِ، لما خرَّبها بُخْتَ نَصَّرُ البابليُّ، والعَرِيشُ: سقْف البيتِ، قال السُّدِّيُّ: يقول: هي ساقطةٌ علَىٰ سَقْفِها، أي: سقطت السقْف، ثم سقطت الحيطانُ عليها، وقال غيره: معناه: خاوية من الناس، وخاوية: معناه: خاليةٌ؛ يقال: خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وخُوِيًّا، ويقال: خويت، قال الطبريُّ: والأول أفْصَحُ، قال:* ص *: { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } في موضع الحالِ من فَاعِلِ «مَرَّ» أو من «قَرْيَةٍ» و { عَلَىٰ عُرُوشِهَا }: قيل: على بابِهَا، والمعنَىٰ: خاويةٌ من أهلها، ثابتةٌ علَىٰ عروشها، والبُيُوت قائمةٌ، والمَجْرور علَىٰ هذا يتعلَّق بمحذوفٍ، وهو ثابتةٌ، وقيل: يتعلَّق بـــ «خَاوِيَة» والمعنى: وقعتْ جُدُرَاتُهَا علَىٰ سقوفها بعْد سُقُوط السقوفِ.