الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها. فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله { تلك ءايت اللَّه نتلوها عليك بالحق } جمع ذلك كلّه في قوله { تلك الرسل } لَفْتاً إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه. ولما أنهى ذلك كلّه عَقَّبه بقولهوإنّك لمن المرسلين } البقرة 252 تذكيراً بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته. إذ ما كان لمثله قِبَلٌ بعلم ذلك لولا وحي الله إليه. وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة
بني عمه دنيا وعمِرو بن عامر أولئك قومٌ بأسهم غير كاذب   
والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله { وإنّك لمن المرسلين }. وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال. وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال. فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن، أي هي قصة الرسل وأممهم، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمداً صلى الله عليه وسلم وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويهاً بمراتبهم كقولهذٰلك الكتٰب } البقرة 2. واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر، وليس الرسل بدلاً لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم، وجملة «فضّلنا» حال. والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلاّ الله تعالى، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المُصلِحة للبشر ومن نصر الحق، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك، وما أيَّدُوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر، وفي عموم ذلك الهديِ ودوامهِ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول " لأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس " ، فما بالك بمن هدى الله بهم أمماً في أزمان متعاقبة، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7