الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولىٰ: قوله تعالىٰ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } هذا الخطاب للمؤمنين المصدّقين بلا خلاف. والاستجابة: الإجابة: و { يُحْيِيكُمْ } أصله يحييكُم، حذفت الضمة من الياء لثقلها. ولا يجوز الإدغام. قال أبو عبيدة: معنىٰ «اسْتَجِيبُوا» أجيبوا ولكن عُرْف الكلام أن يتعدّىٰ استجاب بلام، ويتعدّىٰ أجاب دون لام. قال الله تعالىٰ:يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } [الأحقاف: 31]. وقد يتعدّىٰ استجاب بغير لام والشاهد له قول الشاعر:
وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدَىٰ   فلم يَستجِبْه عند ذاك مُجيبُ
تقول: أجابه وأجاب عن سؤاله. والمصدر الإجابة. والاسم الجابة بمنزلة الطاقة والطاعة. تقول: أساء سَمْعاً فأساء جابة. هكذا يتكلم بهذا الحرف. والمجاوبة والتجاوب: التحاور. وتقول: إنه لحَسن الجِيبة بالكسر أي الجواب. { لِمَا يُحْيِيكُمْ } متعلق بقوله: «استجيبوا». المعنىٰ: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم. وقيل: اللام بمعنىٰ إلى، أي إلى ما يحييكم، أي يُحِيي دينكم ويعلمكم. وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحّدوه، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنىٰ استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله «لِما يحيِيكم» الجهاد فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدوّ إذا لم يُغز غَزا وفي غزوِهِ الموت، والموت والجهاد الحياةُ الأبدية قال الله عز وجل:وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } [آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور. الثانية: روىٰ البخاريّ " عن أبي سعيد بن المُعَلَّى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أُجِبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلِّي. فقال: «ألم يقل الله عز وجل { ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } » " وذكر الحديث. وقد تقدّم في الفاتحة. وقال الشافعيّ رحمه الله: هذا دليل على أن الفعل الفرضَ أو القول الفرضَ إذا أتىٰ به في الصلاة لا تبطل، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة. قلت: وفيه حجة لقول الأوزاعي: لو أن رجلاً يصلي فأبصر غلاماً يريد أن يسقط في بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس. والله أعلم. الثالثة: قوله تعالىٰ: { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قيل: إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذا لم يُقدره عليه بل أقدره على ضدّه وهو الكفر. وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر. فَبانَ بهذا النص أنه تعالىٰ خالق لجميع اكتساب العباد خيرها وشرها. وهذا معنىٰ قوله عليه السلام: " لا، ومُقَلِّبِ القلوب "

السابقالتالي
2