الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

لما ذكر سبحانه عدّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقَّب ذلك بذكر عدّة الوفاة، لئلا يتوهم أن عدّة الوفاة مثل عدّة الطلاق. قال الزجاج ومعنى الآية، والرجال الذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً أي ولهم زوجات، فالزوجات يتربصن. وقال أبو علي الفارسي تقديره، والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم، وهو كقولك السمن مَنَوان بدرهم. أي منه. وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون. وقيل التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، ذكره صاحب الكشاف، وفيه أن قوله { وَيَذَرُونَ أَزْوٰجًا } لا يلائم ذلك التقدير لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة. وقال بعض النحاة من الكوفيين إن الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهنّ يتربصنّ. ووجه الحكمة في جعل العدّة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة، فتتأخر حركته قليلاً، ولا تتأخر عن هذا الأجل. وظاهر هذه الآية العموم، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدّتها هذه العدّة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالىوَأُوْلَـٰتُ ٱلأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } الطلاق 4 وإلى هذا ذهب الجمهور. وروى عن بعض الصحابة، وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتدّ بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص، وإعمالاً لهما، والحق ما قاله الجمهور، والجمع بين العام، والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة، ولا قواعد الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام، ومخالف له. وقد صح صلى الله عليه وسلم عنه أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوّج بعد الوضع، والتربص الثاني، والتصبر عن النكاح. وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة، والكبيرة، والحرّة والأمة، وذات الحيض، والآيسة، وأن عدّتهنّ جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر. وقيل إن عدّة الأمة نصف عدّة الحرة شهران وخمسة أيام. قال ابن العربي إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم، فإنه سوّى بين الحرة، والأمة، وقال الباجي ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال عدّتها عدّة الحرّة، وليس بالثابت عنه، ووجه ما ذهب إليه الأصمّ، وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم، ووجه ما ذهب إليه من عداهما قياس عدّة الوفاة على الحد، فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانهفَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } النساء 25. وقد تقدم حديث " طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان " وهو صالح للإحتجاج به، وليس المراد منه إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة، وعدّتها على النصف من عدّتها، ولكنه لما لم يمكن أن يقال طلاقها تطليقة ونصف، وعدّتها حيضة ونصف، لكون ذلك لا يعقل كانت عدّتها، وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر، ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور، وهو أن الحكمة في جعل عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدّمنا من معرفة خلوّها من الحمل، ولا يعرف إلا بتلك المدّة.

السابقالتالي
2 3