الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

فيه ست مسائل: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } معنى «بَلَغْنَ» قاربْن بإجماع من العلماء ولأن المعنى يضطرّ إلى ذلك لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأُولىٰ. الثانية ـ قوله تعالىٰ: { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها فإن لم يفعل خرج عن حدّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه وبهذا قال مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطّان وعبد الرّحمٰن بن مهديّ، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيّب وقال: إن ذلك سُنّة. ورواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: لا يفرّق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمّته بحكم الحاكم وهذا قول عطاء والزهريّ، وإليه ذهب الكوفيون والثوريّ وٱحتجوا بقوله تعالىٰ:وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } [البقرة: 280] وقال:وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [النور: 32] الآية فندب تعالىٰ إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سبباً للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. وأيضاً فإن النكاح بين الزوجين قد ٱنعقد بإجماع فلا يفرّق بينهما إلاَّ بإجماع مثله، أو بسُنّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا معارض لها. والحجّة للأوّل قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاريّ: " تقول المرأة إما أن تطعِمنِي وإما أن تطلقني " فهذا نص في موضع الخلاف. والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافاً للشافعيّ في قوله: إنها طلقة بائنة لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لِعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية أصله طلاق المُولِي. الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } يعني فطلقوهنّ وقد تقدّم. { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } روى مالك عن ثور بن زيد الديلي: أن الرجل كان يطلِّق ٱمرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها كيما يطوّل بذلك العدّة عليها وليُضارّها فأنزل الله تعالىٰ: { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } يعِظهم الله به. وقال الزجاج: «فقد ظلم نفسه» يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرّضٌ لعذاب الله. وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدّم بيانه عند قوله تعالىٰ: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }.

السابقالتالي
2