قوله تعالى: { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } قد تقدم الكلام على قوله: { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } في أول سورة يونس، فالإشارة بـ " تِلْكَ " إلى آيات هذه السورة على الابتداء والخبر. وقيل: " الر " اسم للسورة، أي: هذه السورة المسمَّاة: { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } والمراد بـ " الكِتَاب ": القرآن، وأما قوله: " المُبِين " فيحتمل أن يكون من بانَ، بمعنى: ظهر، أي: المبين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه قال قتادة ـ رحمه الله ـ: " المبين والله بركته، وهداه ورشده ". وقال الزجاج: " من أبَان بمعنى: أظهر، أي: أبان الحقَّ من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأولين والآخرين ". ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى: التَّفريق، أي: فرَّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام. قوله تعالى: { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } يعنى: الكتاب، في نصب: " قُرْآناً " ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون بدلاً من ضمير " أنْزلْنَاهُ " أو حالاً موطئة منه، والضمير في: " أنْزَلْنَاهُ " على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل: " قُرْآناً " مفعول به، والضمير في " أنْزَلْنَاهُ " ضمير المصدر، و " عربياً " نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء: أن يكون حالاً من الضمير في: " قُرْآناً " إذا تحمَّل ضميراً، يعنى: إذا جعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي: أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا, والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحِد العرب: عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم: رُومِيٌّ، أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و " عَرَبَة " ـ بفتح الرَّاء ـ ناحية دار إسماعيل ـ عليه السلام ـ قال الشاعر: [الطويل]
3043ـ وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا
مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة. فصل احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية: على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى: { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه ـ تعالى ـ وصفهُ بكونه: " عَرَبيًّا " والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله ـ تعالى ـ { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى ـ قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ. قال ابن الخطيب: " والجواب عن هذه الوجوه أن نقول: المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌ، وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال ". قوله: { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }: قال الجبائي: " كلمة " لعَلَّ " نحملها على اللاَّم، والتقدير: إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد بـ " لعَلَّكُم تعْقِلُونَ ": الشَّك؛ لأنَّه على الله ـ تعالى ـ محالٌ، فثبت أنَّ المراد: لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ ـ سبحانه وتعالى ـ أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف ".