الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قال الله - تعالى -: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }:

امتدح - جل ثناؤه - بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته، وبه خَوَّفَ من عاند نعمته، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته، لاضمحل الخوفُ عما خوَّفَهُ، والرجاءُ فيما أطمعه؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله:وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 120]، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه، أو يزول به قدرته؛ لما فيه ما ذكرت؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة الله، وامتناعه عن تدبيره، ولا قوة إلا بالله.

قال الله - عز جل -:إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ... } إلى قوله - عز وجل -:لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]:

نقول - وبالله نستعين -: أخبر الله - تعالى - أن فيما ذكر آيات لمن ذكر، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس، يوصل إليها بالتأمُّل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة، التي يغني من له اللبّ دخولها تحت الحواس - عن تكلف العلم بها بالتدبير، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم؛ فيلزم طلب ذلك؛ فيبطل به قول من قال: العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب، ولا يلزم الخطاب دون تولي الرب إنشاءَ العلم في القلوب بحقيقه ما فيه الخطاب؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب، ويستوفي فيه الموصوف باللبِّ وغير الموصوف، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر، وقد قال الله - تعالى -:وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ... } الآية [آل عمران: 191]، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر، إذ لزم التفكر بالذي أظهر؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعلمه، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهراً مستغنيا بظهوره عن الطلب، وخفيّاً يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل، والله أعلم.

وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبِّ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك، وأوَّل درجات الآيات أن يُعَرف منشئها وجاعلها آيات، والله أعلم.

ثم دلَّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما، حتى قام بها وحي جميع من درب على وجه الأرض وانتفع بشيء، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضادِّ ما بينهما؛ حتى صارا كالشكيلين، والسماء والأرض كالقرينين - على أن منشئ ذلك كله واحد، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير، وبَطَلَ وجوه النفع، وأن الذي أنشأ ذلك علم كيف يدبر لاتصال المنافع واجتماعها بغيرها، على اختلافِ مابينها، وأنه حكيم وضع كل شيء على ما لو تدبر الحكماء فيه - لم يكن يُعْرَفُ اتصالٌ أقرب في المنافع على اختلاف في الجواهر، وتضاد في الأحوال - أبلغَ من ذلك؛ بل تقصر حكمتهم عن الإحاطة بوجه الحكمة، أو الظفر بطرف منها، إلا بمعونة مَنْ دَبَّرَ ذلك سبحانه، وذلك هو الدليل على قدرته وعلو سلطانه؛ إذ سخر ذلك كلها لبذل ما فيها من المنافع لمن جعلها له، وجعل لبعض على بعض سلطاناً وقهراً؛ ليُعْلَمَ أن التدبير يرجع إلى غير ذلك، ويُعْلَمَ أن من قَدَرَ على ذلك، وعلم قبل خلق المنتفعين بما خلق على أيِّ تدبير [يخلق ذلك، وبأيِّ وجه يصل كل خلق في ذلك إلى منافعه بها، وما الذي سوى معاشهم، وعلى أيِّ تدبير] دلهم عليه - لقادر على إعادة مثله، والزيادة منه على أنواع ذلك؛ إذ كل أمر له حق الابتداء - كان ذلك أبعد عن التدبير مما له حق الاحتذاء بغيره أو الإعادة، مع ما كان في إعادة الليل والنهار، وجعل كُلٍّ من ذلك [كالذي] مضى، وإن كان الذي مضى - مرة - دلالة كافية للبعث والقدرة عليه، والله الموفق.

السابقالتالي
2 3