الرئيسية - التفاسير


* تفسير رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز/ عز الدين عبد الرازق الرسعني الحنبلي (ت 661هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ } أي: ألم تعلم، { أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } قد سبق في سورة النحل تفسير هذه الآية، وذكرنا أقوال المفسرين في معنى سجود ما لا يعقل، وبيّنّا ما هو المختار عندنا.

قال أبو العالية: ما في السماء نجمٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ إلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له.

فصل

قرأ الزهري: { وَٱلدَّوَآبُّ } بالتخفيف.

قال أبو الفتح: لا أعلم أحداً خَفَّفَها سواه. ولَعَمْري أنّ تخفيفها قليل وضعيف قياساً وسماعاً، لكن له بعد ذلك ضربٌ من العُذْر، وذلك أنهم إذا كرهوا تضعيف الحرف فقد [يُخَفِّفُون] أحدهما، من قولهم: ظَلْتُ، ومَسْتُ، وأحَسْتُ، يريدون: ظَلَلْتُ، ومَسِسْتُ، وأحْسَسْتُ. قال أبو [زُبيد]:
خَلا أنَّ العِتَاقَ من المطَايَــا     أحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوس
وقال عمران بن حطّان:
قد كنتُ عندكَ حولاً ما تُروِّعني     فيه روائعُ من إنسٍ ولا جان
قوله تعالى: { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } قال المفسرون: يعني: المؤمنين الذين يسجدون لله سجود طاعة.

قال صاحب الكشاف: فإن قلتَ: فما يصنع بقوله: { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } بما فيه من الاعتراضين:

أحدهما أن السجود على المعنى الذي فسرتُه به، -[يعني] من التسخير والخضوع لخالقها- لا يسجده بعض الناس دون بعض.

الثاني: أن السجود قد أُسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولاً، فإسناده إلى كثير منهم آخراً مناقضة؟

قلتُ: لا أنظم كثيراً في المفردات [المتناسقة] الداخلة تحت حكم الفعل، وإنما أرفَعُهُ بفعل مُضْمَر يدُلُّ عليه قوله: " يسجد " ، أي: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، ولم أفسر [يسجد] الذي هو ظاهرٌ بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء؛ لأن اللفظ الواحد لا يَصِحُّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين، أو أرفَعُهُ على الابتداء، والخبر محذوف وهو مُثَابٌ؛ لأن خبر مُقابِلِه يدل عليه، وهو قوله: { حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } ، ويجوز أن تجعل " من الناس " خبراً له، أي: من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون والمتقون. ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقُوقين بالعذاب، فيُعْطَفَ " كثيرٌ " على " كثيرٍ " ، ثم يخبر عنهم بـ " حق عليهم العذاب " ، كأنه قيل: وكثيرٌ وكثيرٌ من الناس حق عليهم العذاب.

وقرئ: " حُقَّ " بالضم. وقرئ: " حَقّاً " أي: حُقَّ عليهم العذاب حَقّاً.

{ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ } أي: من يُشْقِهِ الله { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } أي: من مُسْعِد، { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ } في خلقه { مَا يَشَآءُ } من الإهانة والإكرام.