* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ.
أحدُهَا: أَنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى بَيَّنّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّل القبْلةَ إلى الكعبة؛ ليتُمَّ إِنْعامَه علَى محمَّد [صلواتُ البَرِّ الرِّحيم وسلامُهُ علَيْه] وأمّتِهِ بإِحْيَاءِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهيم - علَيه الصَّلاةُ والسلام - لقوله تعالى:{ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [البقرة: 150]، وكان السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا والمَرْوَة مِنْ شَرِيعَة إِبْرَاهِيمَ [علَيْه الصَّلاةُ والسَّلاَمُ] فذكَرَ هذا الحُكْمَ عَقبَ تلْكَ الآيَةِ.
وقِيلَ: إنَّه تبارك وتَعالَى [لَمَّا] أَمَرَ بالذِّكْر مُطْلَقاً في قَوْله تعالى: " فَاذكرُونِي " بيّن الأَحوالَ الَّتي يذكر فيها وإحداها الذِّكْر مُطْلقاً.
والثَّانية: الذكْرُ في حَال النِّعْمَةِ، وهو المرادُ بقوله تعالى:{ وَٱشْكُرُواْ لِي } [البقرة: 152].
الثالثةُ: الذّكْر في حَال الضَّرَّاءِ، فقال تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفِ وَٱلْجُوعِ } [البقرة: 155] إلى قوله تعالى:{ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } [البقرة: 155] ثم بَيَّنَ في هذه الآيةِ المَوَاضِع الَّتِي يُذْكَرُ فيها، ومِنْ جُمْلَتِها عنْد الصَّفَا والمَرْوَةِ، وبَقِيَّة المشَاعِر.
وثانيها: أَنَّهُ لمّا قال سبْحَانه: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ } [الآية] إلى قوله سبحانَهُ: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِين } ، ثم قَالَ [عَزَّ وَجَلَّ]: { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ } ، وإنما جَعَلَهَا كذلك، لأنَّها مِن أثار " هَاجَرَ، وإسْمَاعِيل " ، وما جَرَى [عليْهمَا] من البَلْوَى ويُستَدَلُّ بِذلك عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى البَلْوَى، لا بُدَّ وأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ.
وثالثها: أنَّ [أقسام] التَّكْليفِ ثَلاثَةٌ:
أحدها: ما يَحْكُمُ العاقلُ [بِحُسْنِهِ] في أَوْلِ الأَمْرِ، فَذَكَرَهُ أَوَّلاً، وهو قوله تعالى:{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة: 152]؛ فَإنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أنَّ ذِكْرَ المُنْعِمِ بالمَدْحِ، والشُّكْرِ، أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ.
وثانيها: ما يَحْكُمُ العَقْلُ [بقُبْحِهِ] في أوَّل الأَمْر، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ، [وهي] الابْتِلاءُ، والامْتِحَانُ؛ عَلى ما قال تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ } [البقرة: 155]، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً.
[وثالثها]: ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ، وَلاَ إلى [قُبْحِه]، بَل [يراها] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ.
قوله [تعالى]: " إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ ": [الصَّفَا:] اسمُ " إنَّ " ، و " مِنْ شَعَائِر الله " خَبَرُهَا.
قال أبُوا البَقَاءِ - رحمه الله تعالى -: وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره " طَوَافُ الصَّفَا، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا ". وألفُ " الصَّفَا " [مُنْقَلِبَةٌ] عن وَاوٍ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً؛ قالوا: صَفَوَانِ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو، وهو الخُلُوصُ، [والصَّفَا: الحَجَرُ الأمْلَسُ].
وقال القُرْطُبِي: " والصَّفَا مقصورٌ " جمع صَفَاة، وهي الحِجَارة المُلْسُ.
وقيل: الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ؛ وجمعه " صُفِيٌّ " - بِضَمِّ الصاد - [وَأصْفَاء]؛ على [وزن] أَرْجَاء.