قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } قال الزجاج وغيره: " لا " مزيدة مؤكدة. والمعنى: فأقسم بالخنس. والخُنَّس: جمع خَانِس وخَانِسَة، والكُنَّس: جمع كَانِس وكَانِسَة، والجواري: جمع جارية، وعامة المفسرين يقولون: هي النجوم. قال ابن قتيبة: وإنما سَمَّاها خُنَّساً؛ لأنها تسير في البروج والمنازل كسير الشمس والقمر، ثم تخنُس، أي: ترجع، بينا ترى أحدها في آخر البروج كرَّ راجعاً إلى أوله، وسَمّاها كُنّساً؛ لأنها تكنِس، أي: تستتر، كما تَكنِسُ الظباء. قال قتادة: تبدو بالليل وتخفى بالنهار فلا تُرى. قال الزجاج: تَخْنِسُ: أي: تغيب، (وكذلك تَكْنِسُ، أي: تدخل في كناسها أي: تغيب) في المواضع التي تغيب فيها. ويروى: أن رجلاً من مراد قال لعلي عليه السلام: ما الخُنَّس الجواري الكُنَّس؟ قال: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا تُرى، وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها. قال: وهن: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشتري. قال الماوردي: وفي تخصيصها بالذكر وجهان: أحدهما: [لأنها] تستقبل الشمس. وهذا قول بكر بن عبدالله المزني. والثاني: لأنها تقطع المجرّة. وهذا قول ابن عباس. وذهب جماعة، منهم: ابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وجابر بن زيد، إلى أنها: بقر الوحش. وقال سعيد بن جبير وابن عباس في رواية العوفي عنه: هي الظباء. والمرادُ بانْخِنَاسِها: رجوعُها بعد جَرْيِها إلى كِنَاسِها، وهو اسمٌ للمكان الذي تأوي إليه؛ لأنها تَكْنِسُ فيه، أي: تدخل وتستتر. قوله تعالى: { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } يقال: عسعس الليل، وقد يُقلب فيقال: سَعْسَعَ. قال اللغويون: هو من الأضداد، يقال: عَسْعَسَ الليل؛ إذا أقبل، وعَسْعَسَ؛ إذا أدبر. وأنشدوا:
حتى إذا الصبحُ لَهَا تَنَفَّسَا
وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسَا
والمعنيان مذكوران في التفسير، ورجح بعضهم المعنى الثاني بقوله: { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ }. قال [الزجاج]: تنفّس الصبح: امتدّ وصار نهاراً بيّناً. ثم ذكر جواب القسم فقال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }. قال الزجاج: يعني: القرآن نزل به جبريل عليه السلام. ثم وصف جبريل بقوله: { ذِي قُوَّةٍ } ، فهو كقوله:{ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } [النجم: 5-6] والمعنى: ذي قوةٍ على أعداء الله، { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } صاحبه وهو الله عز وجل { مَكِينٍ } رفيع المنزلة والمكانة عند ذي العرش. { مُّطَاعٍ } في الملائكة ممتثل الأمر فيهم، علماً منهم بأن إيراده وإصداره منوط بإذن رب العزة جل وعلا. قال المفسرون: من طاعة الملائكة لجبريل عليه السلام: أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتح لمحمد صلى الله عليه وسلم أبوابها فدخلها، ورأى ما فيها، وأمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر إليها. وقال بعض العلماء: { ثَمَّ } إشارة إلى الظرف [المذكور]، وهو: عند ذي العرش، فالمعنى: مطاع في ملائكة الله المقربين. وقرئ: " ثُمَّ " بضم الثاء؛ تعظيماً لأمانة جبريل، وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة.