الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { ولما جاء موسى لميقاتنا } الذي وقتنا له { وكلَّمه ربه } من غير واسطة كما يكلم الملائكة. وفيما رُوِي: أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين. قاله البيضاوي. وقال الورتجبي: أي أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات. هـ. وقال ابن جزي: لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها، كما قال الشاعر:
وأبرحُ ما يَكُونُ الشَّوقُ يَومًا إذا دَنَت الديارُ من الدَّيَارِ   
{ قال ربِّ أرني أنظر إليك } أي: أرني نفسك أنظر إليك، بأن تكشف الحجب عني، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة. قال البيضاوي: وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله، ولذلك رده بقوله تعالى: { لن تراني } دون لن أُرِى ولن أريك، ولن تنظر إليّ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي، لم توجد فيه بعدُ، وجعلُ السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا:أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً } [النَّساء:153] خطأ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبههم، كما فعل بهم حين قالوا:أجْعَل لَّنَآ إِلَهًا } [الأعرَاف:138]، والاستدلال بالواجب على استحالتها أشد خطأ، إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته أياه على أنه لا يراه أبدًا، وألا يراه غيره أصلاً، فضلاً عن أن يدل على استحالتها. ودعوى الضرورة فيه مكابرة وجهالة بحقيقة الرؤية. هـ. وهو تعريض بالزمخشري وردُّ عليه، فإنه أطلق لسانه في أهل السنة ـ عفا الله عنه ـ. والتحقيق: أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء ـ وهي أنوار الصفات ـ جائرة واقعة ـ، وأما رؤية أسرار الذات ـ وهي المعاني الأزلية، التي هي كنه الربوبية ـ فغير جائزة إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السلام، فلذلك قال له: { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه } عند تجلي هذه الأسرار له، { فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل } أي: أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية، { جعله دكًا } أي: مدكوكًا مفتتًا، والدك والدق واحد، وقرأ حمزة: " دكاء " بالمد، أي: أرضًا مستوية، ومنه: ناقة دكاء لا سنم لها. { وخرَّ موسى صَعِقًا } مغشيًا عليه من هول ما رأى، { فلما أفاق قال } تعظيمًا لما رأى: { سبحانك تُبت إليك } من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقال بعضهم: تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله: { لن تراني } حتى نظر إلى الجبل، { وأنا أولُ المؤمنين } أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات، أو أول أهل زماني إيمانًا.

السابقالتالي
2 3