يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنجِيكم من عذابٍ أليم } ، وكأنهم قالوا: وما هذه التجارة، أو: ماذا نصنع؟ فقال: { تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم } ، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: وجاهِدوا، وجيء به بصيغة الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقرىء " تؤمنوا " و " تجاهدوا " على إضمار لام الأمر. { ذالكم خير لكم } ، الإشارة إلى الإيمان والجهاد بقِسْميه، أي: هو خير لكم من أموالكم وأنفسكم { إن كنتم تعلمون } أنه خير لكم، وقد قلتم: لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لسارعنا، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله، أو: إن كنتم من أهل العلم فإنَّ الجهلة لا يعتد بأفعالهم. { يَغفر لكم ذنوبكم }: جواب للأمر المدلول بلفظ الخبر، على قول، أو شرط مقدّر، أي: إن تُؤمنوا وتُجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم { ويُدْخِلْكم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً } ولا تطيب إلاّ بشهود الحبيب { في جناتِ عَدْن } أي: إقامة لا انتقال عنها. وجنة عدن هي مدينة الجنة ووسطها، يسكنها الصالحون الأبرار من العلماء والشهداء، وفوقها الفردوس، هي مسكن الأنبياء والصدِّيقين من المقربين، هذا هو المشهور، كما في الصحيح، { ذلك الفوزُ العظيمُ } أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز وراءه. { وأُخرى } أي: ولكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمةٌُ أخرى عاجلة { تُحبونها } وترغبون فيها، وفيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل. ثم فسَّرها بقوله: { نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ } أي: عاجِل، وهو فتح مكة، والنصر على قريش، أو فتح فارس والروم، أو: هل أَدُلكم على تجارةٍ تُنجيكم، وعلى تجارةٍ تُحبونها، وهي نصر وفتح قريب، { وبَشِّر المؤمنين }: عطف على " تؤمنوا " لأنه في معنى الأمر كأنه قيل لهم: آمنوا وجاهِدوا يُثبكم الله وينصركم وبشر أيها الرسول بذلك المؤمنين. { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله } أي: أنصار دينه { كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحواريين مَنْ أنصاري إِلى الله }؟ أي: مَن يكون مِن جندي ومختصاً بي، متوجهاً إلى الله. ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى: { مَن أنصاري إلى الله } ولكنه محمول على المعنى، أي: كونوا أنصارَ الله، كما كان الحواريون أنصارَ عيسى، حينما قال لهم: مَن أنصاري إلى الله؟ { قال الحواريون نحن أنصارُ الله } أي: نحن الذين ينصرون دينه، والحواريون: أصفياؤه، وهم أول مَن آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً. وحواري الرجل: صفوته وخاصته من الحَور، وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصّارين يُحوِّرون الثياب، أي: يُبيّضونها، وقيل: إنما سُمُّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون النفوس بإقامتهم الدين والعلم، ولمَّا كفرت اليهود بعيسى عليه السلام، وهَمُّوا بقتله، فرَّ مع الحواريين إلى النصارى بقرية يُقال لها: نصرى، فنصوره، فقاتل اليهودَ بهم مع الحواريين، وهذا معنى قوله تعالى: { فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ } به، فقاتلوهم { فإيَّدنا الذين آمنوا } بعيسى عليه السلام { على عدوهم } أي: قوّيناهم { فأصبحوا ظاهِرين } غالبين عليهم.