قوله: { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } هنا سؤال وهو أن قوله: " اهْبِطَا " إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر، فإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال بعده: " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم " وهو خطاب الجمع؟ وإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال: " اهْبِطَا "؟ وأجاب أبو مسلم: بأن الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس ومعه ذريته، ولكونهما جنسين صح قوله: " اهْبِطَا " ولأجل اشتمال كل من الجنسين على الكثرة صح قوله: " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ". وقال الزمخشري: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصل البشر اللذين منهما تفرعوا كأنهما البشر أنفسُهُما، فخوطِبَا مخاطبتهم، فقيل: " فَإِمَّا يَأْتينكم " على لفظ الجماعة. ومن قال: بأنَّ أقَلَّ الجمع اثنان، أو بأنه يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع، كقوله:{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4] فلا يحتاج إلى التأويل. قوله: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } تقدم تفسيره. { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبعَ هُدَايَ } وهذا يدل على أن المراد الذرية والمراد بالهدى الرسل، وقيل: الآيات والأدلة، وقيل: القرآن. " فَلاَ يَضِلُّ " في الدُّنيا، " وَلاَ يَشْقَى " في الآخرة، لأنه تعالى يهديه إلى الجنة. وقيل: لا يَضِلُّ ولا يَشْقَى في الدُّنْيَا. فإن قيل: المتبع لهدى الله قَدْ يَشْقَى في الدنيا. فالجواب: أن المراد لا يضل في الدين، ولا يشقى بسبب الدين، فإن حصل بسبب آخر فلا بأس. ولما وعد الله تعالى من يتبع الهُدَى أتْبَعه بالوعيد لمن أعرض فقال: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم. قوله: " ضَنْكاً " صفة لمعيشة، وأصله المصدر، فكأنه قال: معيشة ذات ضنك، فلذلك لم يؤنث ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور " ضَنْكاً " بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاًَ وقفاً كسائر المعربات. وقرأت فرقة " ضنكى " بألف كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان: أحدهما: أنها بدل من التنوين، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف كما تقدم في نظائره، وسياتي منها بقية إن شاء الله تعالى. والثاني: أن تكون ألف التأنيث، بُنِي المصدر على (فَعْلَى) نحو دَعْوَى. والضنك الضيق والشدة، يقال منه: ضَنُكَ عيشُه يَضْنَكُ ضَنَاكَةً وَضَنْكاً، وامرأة ضنَاكٌ كثير لحم البدن، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به. فصل قال جماعة من المفسرين: الكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة أبداً فعيشه ضَنْكٌ، وأيضاً فمن الظلمة مَنْ ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة بكفره قال تعالى:{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } [البقرة: 61] وقال:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة: 66]، وقال:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ }