الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة. والمناسبة هي قوله تعالىوتناجوا بالبر والتقوى } المجادلة 9. فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرت عقب آي النجوى لاسْتيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم. وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة. فنقلت عن ابن عباس وقتادة وجابر بن زياد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقلّ الناس من النجوى. وكانت عبارات الأقدمين تجري على التسامح فيطلقون على أمثلة الأحكام وجزئيات الكليات اسمَ أسباب النزول، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير، وأمسك مجاهد فلم يذكر لهذه الآية سبباً واقتصر على قوله نهوا عن مناجاة الرسول حتى يتصدّقُوا. والذي يظهر لي أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به، وجعل سببها ووقتَها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعاً يومياً، وكان الفقراء أيامئذٍ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصُفّة ومعظم المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم. والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوماً فيوماً لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي مُعيَّن الفصول، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة. وعن ابن عباس أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة، وظاهر قوله في الآية التي بعدهافأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } المجادلة 13 أن الزكاة حينئذٍ شَرْع مفرد معلوم، ولعل ما نقل عن ابن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة. وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمناً قليلاً، قيل إنه عشرة أيام. وعن الكلبي قال كان ساعة من نهار، أي أنها لم يدم العمل بها طويلاً إن كان الأمر مراداً به الوجوب وإلا فإن ندب ذلك لم ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة. وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله { فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة } قد نسخه قولهفإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } المجادلة 13 الآية.

السابقالتالي
2 3