{ قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا } قال الزجاج: " اخسأوا " تباعَدُوا تَبَاعُدَ سَخَط، يقال: خَسَأْتُ الكلب أخْسَؤُهُ؛ إذا زجرْته ليتباعد. [وبالإسناد] السابق آنفاً قال: حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة يذكره، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يَرُدُّ عليهم: إنكم ماكثون، قال: هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك، ثم يدعون ربهم فيقولون: غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق)). قوله: " ما نبس القوم بعدها " ، أي: ما تكلموا بكلمة. ويجوز: نَبَّسَ بالتشديد. قال الحسن البصري رحمه الله: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير، ويصير لهم عواء كعواء الكلب، لا يَفْهَمُون ولا يُفْهِمُون. وقال القرظي: إذا قيل لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، انقطع رجاؤهم ودعاؤهم، وأقبل بعضهم يصيح في وجه بعض، وأُطبقت عليهم. ثم بيّن السبب الموجب لذلك فقال: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي } وفي حرف ابن مسعود وأبيّ: " أنه " بفتح الهمزة، على معنى: لأنه كان فريق من عبادي. قال ابن عباس: يريد: المهاجرين. { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } قرأ نافع وحمزة والكسائي: " سُخرياً " بضم السين هنا وفي صاد. وكسرها الباقون في الموضعين، وهو اختيار الفراء والزجاج. واتفقوا على ضم السين في الزخرف، يقال منه: سَخِرَ به وسَخِرَ منه يَسْخَرُ سُخْريةً وسُخْرياً وسِخْرياً؛ إذا هَزِئَ به، ومن السُّخْرَة التي هي بمعنى العبودية: سُخرْياً، بالضم لا غير، [ولذلك] اتفقوا على ضم السين في الزخرف؛ لأنه من السُّخْرَة. قال الخليل وسيبويه في هذا الموضع وفي صاد: هما لغتان بمعنى واحد، ومثله: بحرٌ لِجّي ولُجي، وكوكب دِري ودُري. وقال أبو عبيدة: الكسرة بمعنى: الهزء، والضم بمعنى: السُّخرة والاستعباد. وهذا المعنى مروي عن الحسن وقتادة. وقال أبو علي: قراءة من كَسَرَ أرجح؛ لأنه من الهزء، والأكثر في الهزء؛ كسر السين. قال مقاتل: كان رؤوس الكفار من قريش؛ كأبي جهل، وعتبة، والوليد، قد اتخذوا فُقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كعمار، وبلال، وخبّاب، وصهيب، سخرياً يستهزئون بهم ويضحكون منهم. { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } أي: حتى نسيتم ذكري؛ لاشتغالكم [بالسخرية] منهم وبالضحك. ونسب الإنساء إلى عباده المؤمنين وإن لم يفعلوه؛ لكنهم السبب في ذلك، كقوله تعالى:{ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم: 36]. { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } على أذاكم واستهزائكم { أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ }. وقرأ حمزة والكسائي: " إنهم " بكسر الهمزة على الاستئناف. ومن فَتَحَ الهمزة جعله المفعول الثاني لـ " جزيتهم " ، أو هو على تقدير حذف اللام، أي: لأنهم هم الفائزون.