الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية ومضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام. ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخرت تلك عن آيات النجوى العامة إيذاناً بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة، فاتحاد الجنس في النجوى هو مسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني، والإِيماءُ إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي. وأيضاً قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى، وهذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف. روي عن مقاتل أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصُفّة، وكان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شَماس قد سُبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله قم يا فلان بعَدد الواقفين من أهل بدر فشقّ ذلك على الذين أقيموا، وغمز المنافقون وقالوا ما أُنْصِف هؤلاء، وقد أحبّوا القرب من نبيئهم فسَبَقوا إلى مجلسه فأنزل الله هذه الآية تطييباً لخاطر الذين أقيموا، وتعليماً للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، وواجبِ الاعتراف بمزية أهل المزايا، قال الله تعالىولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } النساء 32، وقاللا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } الحديد 10. والخطاب بـ { يأيها الذين آمنوا } خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول وغيرَهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. وابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم. والتفسح التوسع وهو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذا أوجد له فُسحة في مكان، وفسُح المكان من باب كرُم إذا صار فسيحاً. ومادة التفعل هنا للتكلف، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان وذلك بمضايقة مع الجُلاّس. وتعريف { المجلس } يجوز أن يكون تعريف العهد، وهو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أي إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح على غيره والمجلس مكان الجلوس.

السابقالتالي
2 3 4 5