الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ }

أي فهلا أنفق ماله الذي أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العَقَبة فيأمن! والاقتحام: الرّمْيُ بالنفس في شيء من غير رَوِية يقال منه: قَحَم في الأَمْر قُحوماً: أي رمى بنفسه فيه من غير روِية. وقَحَّم الفَرَس فارسَه تقحيماً على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفسِ في الشيء: إدخالها فيه من غير روِية. والقُحْمة بالضم المَهْلَكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الأعراب القُحْمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقُحَم: صِعاب الطريق. وقال الفرّاء والزجاج: وذكر «لا» مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد «لا» مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يُعيدوها في كلام آخر كقوله تعالى:فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } [القيامة: 31]ولا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة: 62] وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله: «ثم كان من الذِين آمنوا» قائماً مقام التكرير كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جارٍ مجرى الدعاء كقوله: لا نجا ولا سلِم. { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ }؟ قال سفيان بن عُيينة: كل شيء قال فيه «وما أدراك»؟ فإنه أَخْبَر به، وكل شيء قال فيه «وما يدريك»؟ فإنه لم يخبر به. وقال: معنى { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } أي فلم يقتحم العقبة كقول زُهَير:
وكانَ طَوَى كَشْحاً على مُسْتكِنَّةٍ   فلا هُوَ أَبداها ولم يَتَقدّمِ
أي فلم يبدها ولم يتقدّم. وكذا قال المبرّد وأبو عليّ «لا»: بمعنى لم. وذكره البخارِيّ عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فَسَّر العقبة وركوبها فقال: { فَكُّ رَقَبَةٍ } وكذا وكذا فبين وجوهاً من القُرَب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فكّ الرقاب، وإطعام السَّغْبان، ليجاوز به العقبة فيكون خيراً له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: اقتحام العقبة هاهنا ضرب مَثَل، أي هل تَحَمَّل عِظام الأمور في إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } على الدعاء أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عِظم الذنوب وثِقلها وشدّتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمِل صالحاً، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مَصْعَدُها سبعة آلاف سنة، ومهبِطها سبعة آلاف سنة وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجِسر، فاقتحِمُوها بطاعة الله.

السابقالتالي
2