الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

قرأ القرّاء سوى ابن عامر: " وكلاً وعد الله " بالنصب على المفعولية لأنه بمنزلة " زيداً وعدتُ خيراً ". وقرأ ابنُ عامر: وكلٌ وعد الله. بالرفع، محتجاً بأن الفعل إذا تقدم عليه مفعوله لم يُقْوَ عمله فيه قوته إذا تأخر، والدليل أن من قال: " زيد ضربت " وزيد بحسب المعنى مفعول ضربت، فإذا تأخر المفعول فوقع بعد الفاعل يتغير إعرابه نصباً، فكذلك قوله تعالى: { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } يكون على إرادة " الهاء " وحذفها كما يحذف من الصفات والصلات.

وأما معناه: فقد حثّ سبحانه على الإنفاق الذي هو من الأعمال الحسنة الجامعة لتكميل الشخص وتهذيبه من ذمائم الأخلاق المنوطة لمحبة الأمر الفاني مع مصلحة النوع، إذ بالإنفاق ينتشر ما به ينتفع الناس ويصرف في وجوه المصالح كأهبة المجاهدين وغيرها ليستحفظ به الشريعة، فقال: وما لكم ألاَّ تنفقوا - أي: في أن لا تنفقوا - في سبيل الله -، أي: أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق في طريق الحق والجهاد في سبيله مع كونه خيراً نافعاً لكم ولغيركم، والحال أن المال في معرض الزوال عمن بيده عن قريب، إما بهلاك أحدهما، أو كليهما في نفسه عن الآخر. - ولله ميراث - كل موجود - في السموات والأرض. إذ الكل يفنى وهو يبقى، فالله يرث كل شيء فيهما من مال وغيره، فما أقبح للعاقل أن يبخل بمال يكون عارية بيده من غيره، وسينتقل إليه، وهو يأمره بالإنفاق الذي فيه صلاح له ولغيره، فالآية من أعظم الحث وأبلغ البعث على الإنفاق في سبيله.

ثم بيّن سبحانه مراتب المنفقين في الفضيلة والأجر، وتفاوت درجاتهم بحسب الإنفاق في سبيله فقال: - لا يستوى منكم من أنفق - من قبل فتح مكة وشوكة الإسلام، وكثرة أهله وقوتهم، وقلة الحاجة إلى القتال ونفقة المقاتلين، ومن أنفق من بعد الفتح. وحذف لوضوح دلالة الكلام عليه، وقرئ: " قبلَ الفتح ".

أولئك - أي: السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا قبل الفتح وجاهدوا في سبيل الله - أعظم درجة - عنده - من الذين أنفقوا - بعد الفتح، ثم سوّى بين الجميع في الوعد ومطلق الخير والمثوبة الحسنى، وهي الجنة، مع التفاضل في الرتب والدرجات.

والله سبحانه - لكونه عالماً، لا يخفى عليه شيء من الدقيق والجليل، خبير بما تعملون من إنفاقكم وجهادكم، بصير بموازين الأفعال والأعمال ومراتب فضلها بحسب الصعوبة والمشقة، ودرجات شرفها بحسب النية والبصيرة والإخلاص والسريرة.

مُكاشفة

واعلم أنه كما تتفاوت درجات المؤمنين بحسب أعمالهم البدنية، وأفعالهم الظاهرية، قبل انتشار نور الإسلام وظهور عزه وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وبعده، كذلك تتفاوت درجات أهل الله وأولياء معرفته، بحسب سلوكهم الباطني، وسفرهم إلى شهود معرفة الله، ومهاجرتهم عن موطن النفس ابتغاءً لوجه الله، ومجاهدتهم مع أعداء الله وأولياء الطاغوت تقرباً إلى الحق بحسب معارفهم وعلومهم الاعتقادية الحاصلة قبل المكاشفة، فإن من كانت اعتقاداته حقة مطابقة لنفس الأمر، وعمل بموجباتها من الإنفاق والزهد والجهاد في سبيل الله، قبل كشف الغطاء ومعاينة الحقائق الدينية بالموت الإرادي، فهو أعظم جلالة وأجلّ مرتبة من الذين زهدوا في الدنيا وجاهدوا مع النفس والهوى بعد ذلك.

السابقالتالي
2 3 4 5