قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ}: هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ المذكر، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها، وقد تُشَدَّد كقوله:
320ـ وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها * وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ وقد تُسَكَّنُ، وقد تُحْذَفُ كقوله: 321ـ فَبَيْنَاهُ يَشْرِي ........... * ...................... والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه. و "لكم" متعلقٌ بَخَلَقَ، ومعناه السببيةُ، أي: لأجلِكم، وقيل: للمِلْك والإِباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه، وقيلَ: للاختصاص، و "ما" موصولةٌ و "في الأرض" صلُتها، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بها، و "جميعاً" حالٌ من المفعول بمعنى كل، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمانِ، وهذا هو الفارقُ بين قولِك: "جاؤوا جميعاً" و "جاؤوا معاً"، فإنَّ "مع" تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع. قيل: وهي هنا حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه: "ما في الأرضِ" عامٌّ. قوله: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أصل "ثُمَّ" أن تقتضيَ تراخياً زمانياً، ولا زمانَ هنا، فقيل: إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ. وقيل: لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ ـ كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى ـ عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ. واستوىٰ معناه لغةً: استقامَ واعتدلَ، مِن استوىٰ العُود. وقيل: عَلاَ وارتفع قال الشاعر: 322ـ فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ * وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى وقال تعالى: {فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} [المؤمنون: 28]، ومعناه هنا قَصَد وعَمَدَ، وفاعل استوىٰ ضميرٌ يعودُ على الله، وقيل: يعودُ على الدخان نقله ابن عطية، وهذا غلطٌ لوجهين، أحدهُما: عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه، والثاني: أنه يَرُدُّهُ قولُه: ثُمَّ استوىٰ إلى السماء، وهي "دُخانٌ". و "إلى" حرفُ انتهاءٍ على بابها، وقيل: هي بمعنى "على" فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر: 323ـ قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ * مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ أي: استولى، ومثلُه قول الآخر: 324ـ فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ * تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ، و {إِلَى ٱلسَّمَآءِ} متعلِّقٌ بـ "استوى"، و "فَسَوَّاهُنَّ" الضميرُ يعودُ على السماءِ: إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على الجَمْعِ، وقال الزمخشري: "هُنَّ" ضميرٌ مُبْهَمٌ، و "سبعَ سماواتٍ" يُفَسِّرُهُ كقولِهم: "رُبَّه رَجُلاً". وقد رُدَّ عليه هذا، فإنَّه ليس من المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في سبعةِ مواضع: ضميرِ الشأن، والمجرور بـ "رُبَّ"، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما جرى مَجْراهما، وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسَّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه، ثم قال هذا المعترض: "إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ "سبع سماواتٍ" بدلاً وهو الذي يقتضيه تشبيهُه برُبَّه رجلاً، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه، لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً كلياً، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما: أنه استوى إلى السماء. والثاني: أنه سَوَّى سبع سماوات، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه. قوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في نصبه خمسةُ أوجه، أحسنُها: أنه بدلٌ من الضميرِ في {فَسَوَّاهُنَّ} العائدِ على السماءِ كقولِكَ: أخوك مررتُ به زيدٍ. الثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده. وهذا يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري، وقد تقدَّم آنِفاً. الثالث: أنه مفعولٌ به، والأصلُ: فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سماواتٍ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى: {وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ} [الأعراف: 155] أي: مِنْ قومه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهذا ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما بالنسبة إلى اللفظِ. والثاني بالنسبة إلى المعنى. أمَّا الأولُ: فلأنه ليس من الأفعالِ المتعديةِ لاثنينِ أحدُهما بإسقاطِ الخافضِ لأنها محصورةٌ في أمر واختار وأخواتِهما. الثاني: أنه يقتضي أن يكونَ ثَمَّ سماواتٌ كثيرةٌ، سوَّى من جملتِها سبعاً وليس كذلك. الرابعُ: أنَّ "سَوَّى" بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكونُ "سبع" مفعولاً ثانياً، وهذا لم يَثْبُت أيضاً أعني جَعْلَ "سَوَّى" مثل صَيَّرَ. الخامس: أن ينتصبَ حالاً ويُعْزَى للأخفش. وفيه بُعْدٌ من وجهين: أحدُهما: أنه حالٌ مقدَّرَةٌ وهو خلافُ الأصل. والثاني: أنها مؤولةٌ بالمشتقِّ وهو خلافُ الأصلِ أيضاً. قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "هو" مبتدأ و "عليمٌ" خبره، والجارُّ قبلَه يتعلَّق به. واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء "هو" و "هي" بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم، نحو: {فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ} [البقرة: 74]، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} [القصص: 61] {لَهُوَ ٱلْغَنِيُّ} [الحج: 64] {لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، تشبيهاً لـ "هو" بعَضْد، ولـ "هي" بكَتْف، فكما يجوز تسكين عين عَضُد وكَتِف يجوزُ تسكينُ هاء "هو" و "هي" بعد الأحرفِ المذكورةِ، إجراء للمنفصل مُجْرى المتصلِ لكثرةِ دَوْرِها مَعَها، وقد تُسَكَّنُ بعد كافِ الجرِّ كقوله: 325ـ فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي * سُلُوٌّ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً مُتَيَّمَا وبعد همزة الاستفهامِ كقوله: 326ـ فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي * فقلتُ أَهْيَ سَرَتْ أم عادني حُلُمُ وبعد "لكنَّ" في قراءة ابن حمدون: {لَّكِنَّ هْوَ ٱللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] وكذا من قوله: {يُمِلُّ هْوَ} [البقرة: 282]. فإن قيل: عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء، وكان مِنْ حقِّه إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية، وإذا تأخَّرَ أَنْ يتعدَّى إليه بنفسه فقط؟ أن أمثلةَ المبالغةِ خالفَتْ أفعالَها وأسماءَ فاعِليها لمعنى وهو شَبَهُها بأَفْعل التفضيل بجامعِ ما فيها من معنى المبالغةِ، وأفعلُ التفضيلِ له حُكْمٌ في التعدِّي، فـأُعْطِيتَ أمثلةُ المبالغةِ ذلك الحُكْمَ: وهو أنها لا تخلُو من أن تكونَ من فِعْلٍ متعدٍّ بنفسِه أولا، فإن كان الأول: فإمّا أن يُفْهِمَ علماً أو جهْلاً أَوْ لا، فإن كان الأولَ تعدَّت بالباء نحو: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} [النجم: 32] {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} [الحديد: 6], وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به. وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو: أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب، ومنه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو: أنا أصبرُ على كذا، وأنا صبورٌ عليه، وأزهدُ فيه منك، وزهيدٌ فيه. وهذا مقررٌ في علم النحو. |
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ}: "إذ" ظرفُ زمانٍ ماضٍ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار، وتليه الجملُ مطلقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام، ولا يتصرَّفُ إلا بإضافةِ الزمنِ إليه نحو: يومئذٍ وحينئذٍ، ولا يكون مفعولاً به، وإن قال به أكثرُ المُعْرِبين، فإنهم يُقَدِّرونَ: اذكر وقتَ كذا، ولا ظرفَ مكان ولا زائداً ولا حرفاً للتعليل ولا للمفاجأة خلافاً لزاعمي ذلك، وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84]، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال:
327- نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ * بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ وللأخفشِ أن يقولَ: أصلُه "وأنتَ حينئذٍ" فلمّا حُذِفَ المضافُ بقي المضافُ إليه على حَالِه ولَم يَقُمْ مَقامَه، نحو: {وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةِ} [الأنفال: 67] بالجر، إلا أنه ضعيفٌ. و {قَالَ رَبُّكَ} جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها. واعلم أنَّ "إذ" فيه تسعةُ أوجه، أحسنُها أنه منصوبٌ بـ {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، وهذا أسهلُ الأوجهِ. الثاني: أنه منصوبٌ بـ "اذكُرْ" مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً. الثالث: أنه منصوبٌ بـ "خَلَقَكم" المتقدمِ في قولِه: {ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء: 1] والواو زائدةٌ. وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ. الرابعُ: أنه منصوبٌ بـ "قال" بعده. وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف. الخامس: أنه زائدٌ ويعزى لأبي عبيد. السادس: أنه بمعنى قد. السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك. الثامن: أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق، تقديرُه: ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف. التاسع: أنه منصوبٌ بـ "أحياكم" مقدَّراً، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً. و "للملائكة" متعلِّقٌ بـ "قال" واللامُ للتبليغ. وملائكةٌ جمع مَلَك. واختُلِف في "مَلَك" على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط. وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء. والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من "أَلَك" أي: أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام، ويدلُّ عليه قوله: 328ـ أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً * غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ وقال آخر: 329ـ وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه * بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ وقال آخر: 330- أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا * أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري فأصل مَلَكَ: مَأْلَك، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، فيكونُ وزنُ مَلَكَ: مَعَلاً بحَذْفِ الفاء. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال: 331ـ فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ * تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ، فوزن ملائِكَة على هذا القول: مفاعِلَة، وعلى القولِ الذي قبلَه: معافِلَة بالقلب. وقيل: هو مشتقٌّ من: لاكَه يَلُوكه أي: أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه، فأصل مَلَك: مَلْوَك، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا: مصائِب ومنائِر، قُُرئ شاذاً: "معائِش" بالهمز، فهذه خمسةُ أقوال. والسادس: قال النضر بن شميل: "لا اشتقاقَ للملك عند العرب". والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو: صَلادِمة. وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً، قال الشاعر: 332ـ أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً} هذه الجملة معمولُ القولِ، فهي في محلِّ نصبٍ به، وكُسِرت "إنَّ" هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان: الفتحُ والكسرُ، وأنشدوا: 333ـ إذا قلتُ أني آيبٌ أهلَ بلدةٍ * نَزَعْتُ بها عنه الوليَّةَ بالهَجْر وكان ينبغي أن يُفَتَح ليسَ إلاَّ نظراً لمعنى الظنِّ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاةً لصورةِ القولِ. و "إنَّ" على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ يجب فيه كَسْرُها، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان، وليس هذا موضعَ تقريرِه، بل يأتي في غضون السور، ولكن الضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو: بلغني أنك قائمٌ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء، وإذا الفجائية وهذه أشدُّ العباراتِ في هذا الضابطِ. و "جاعلٌ" فيه قولان، أحدُهما أنه بمعنى خالق، فيكونُ "خليفةً" مفعولاً به، و "في الأرض" فيه حينئذ قولان، أحدُهما ـ وهو الواضح ـ أنه متعلقٌ بجاعلٌ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه. القولُ الثاني: أنه بمعنى مُصَيِّر، ولم يَذْكر الزمخشري غيرَه، فيكونُ خليفةً" هو المفعولَ الأولَ، و "في الأرض" هو الثانيَ قُدِّم عليه، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر. و "خليفة" يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي: يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل: بمعنى مفعول أي: يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً. إلا أن يُقال: "إنَّ "خليفةً" جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة. وإنما وُحِّد "خليفة" وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو: مُضَر ورَبِيعة، وقيل: المعنى على الجنس. وقرئ: "خليقةً" بالقاف. و "خليفةً" منصوبٌ بـ "جاعل" كما تقدَّم، لأنَّه اسمُ فاعل. واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية. قوله: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ} قد تقدَّم أن "قالوا" عامل في "إذ قال ربُّك" وأنه المختارُ، والهمزةُ في "أتجعل" للاستفهامِ على بابها، وقال الزمخشري: "للتعجب"، وقيل: للتقرير كقوله: 334ـ ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا * وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ وقال أبو البقاء: "للاستشهاد"، أي: أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِد كَمَنْ كان قبلُ" وهي عبارةٌ غريبةٌ. و "فيها" الأولى متعلقةٌ بـ "تَجْعَل" إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق، و "مَنْ يُفْسِدُ" مفعولٌ به، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون "فيها" مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو "مَنْ يفسد"، و "مَنْ" تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب، وعلى الثاني محلُّها النصب، و "فيها" الثانيةُ مُتَعلقةٌ بـ "يُفْسِدُ". و "يَسْفِكُ" عطفٌ على "يُفْسِدُ" بالاعتبارين. والجمهورُ على رَفْعِهِ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار "أَنْ" كقوله: 335ـ أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى * وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ وقال ابن عطية: "منصوبٌ بواو الصَرْف" وهذه عبارةُ الكوفيين، ومعنى واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب، والمشهورُ "يَسْفِك" بكسر الفاء، وقُرئ بضمِّها، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير. والسَّفْكُ: هو الصَّبُّ، ولا يُستعمل إلا في الدمِ، وقال ابن فارس، والجوهري: "يُستعمل أيضاً في الدمع". وقال المَهدوي "ولا يُستعمل السفك إلا في الدَّمِ، وقد يُستعمل في نثرِ الكلامِ، يقال: سَفَكَ الكلامَ أي: نثره". والدِّماء: جمعُ دَمٍ، ولا يكونُ اسمٌ معربٌ على حرفين، فلا بدَّ له من ثالث محذوفٍ هو لامُه، ويجوزُ أن تكونَ واواً وأن تكونَ ياءً، لقولِهم في التثنيةِ: دَمَوان ودَمَيان، قال الشاعر: 336- فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا * جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين وهل وزنُ دم "فَعْل" بسكون العين أو فَعَل بفتحها قولان، وقد يُرَدُّ محذوفُه، فَيُسْتعملُ مقصوراً كعصا وغيرِه، وعليه قولُه: 337ـ كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَها * أَعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَماً غَفَلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبه * فإذا هِيَ بِعِظامٍ ودَماً وقد تُشَدَّدُ ميمُه أيضاً، قال الشاعر: 338ـ أهانَ دَمَّكَ فَرْغَاً بعد عِزَّتِه * يا عمروُ بَغْيُكَ إصراراً على الحَسَد وأصلُ: الدِّماء: الدِّماو أو الدِّماي، فقُلب حرفُ العلةِ همزةً لوقوعِه طَرَفاً بعد ألفٍ زائدةً نحو: كساء ورداء. قولُه: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} الواوُ للحال، و {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، في محلِّ النصب على الحال، و "بحمدك" متعلقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ أيضاً، والباءُ فيه للمصاحبة أي نُسَبِّح ملتبسين بحمدك، نحو: "جاء زيد بثيابِه" فهما حالان متداخلتان، أي حالٌ في حال. وقيل: الباءُ للسببية، فتتعلَّق بالتسبيح. قال ابن عطية: "ويُحْتمل أن يكونَ قولُهم: "بحمدِكَ" اعتراضاً بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبِّح ونقدِّس، ثم اعترضُوا على جهةِ التسليم، أي: وأنتَ المحمودُ في الهداية إلى ذلك" قلتُ: كأنه يحاول أن تكونَ الباءُ للسببية، ولكن يكونُ ما تعلَّقَتْ به الباءُ فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديرُه: حَصَلَ لنا التسبيحُ والتقديسُ بسببِ حمدك. والحمدُ هنا: مصدرٌ مضاف لمفعولِه، وفاعلُه محذوف تقديره: بحمدِنا إياك. وزعم بعضهُم أن الفاعلَ مضمرٌ فيه وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المصدرَ اسم جامدٌ لا يُضمرُ فيه، على أنه قد حُكِيَ خلافٌ في المصدرِ الواقعِ موقعَ الفعل نحو: ضرباً زيداً، هل يَتَحَّملُ ضميراً أم لا؟ وقد تقدَّم. و "نُقَدِّسُ" عطف على "نُسَبِّح" فهو خبر أيضاً عن "نحن" ومفعولُه محذوفٌ أي: نقدِّسُ أنفسَنا وأفعالنا لك، و "لكم" متعلِّقٌ بِه أو بـ "نُسَبِّح"، ومعناها العلةُ، وقيل: هي زائدةٌ، فإنَّ ما قبلَها متعدٍّ بنفسِه، وهو ضَعيفٌ إذ لا تُزادُ إلاَّ مع تقديمِ المعمولِ أو يكونَ العاملُ فَرْعاً، وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ نحو: سجدت لله، وقيل: هي للبيان، كهي في قولك: سُقْياً لك، فعلى هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ويكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: تقديسُنا لك. وهذا التقدير أحسنُ من تقديرِ قولهم: "أعني" لأنه أليقُ بالموضِع. وأبعدَ مَنْ زَعَم أنَّ جملةَ قولِه "ونحنُ نسبِّح" داخلةٌ في حَيِّزِ استفهامٍ مقدرٍ تقديرُه: وأنحن نسبِّح أم نتغيَّر. واستحسنه ابن عطية مع القولِ بالاستفهام المحضِ في قولهم: "أتجعلُ"، وهذا يَأْباه الجمهورُ، أعني حَذْفَ همزةِ الاستفهام مِنْ غيرِ ذِكْر "أم" المعادِلةِ وهو رأيُ الأخفش، وجَعَل مِن ذلك قَولَه تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] أي: وأتلك نعمةٌ، وقول الآخر: 339ـ طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيضَ أَطْرَبُ * ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَب أي: وأذو الشيب، وقول الآخر: 340ـ أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأَنْ * أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلاً أي: أأفرحُ، فأمَّا مع "أمْ" فإنه جائزٌ لدَلالتِها عليه كقوله: 341ـ فواللهِ ما أدري وإنْ كنتُ دارياً * بسبْعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بِثَمانِ أي: أبسبعٍ. والتسبيحُ: التنزِيهُ والبَرَاءَةُ، وأصلُه من السَّبْحِ وهو البُعْد، ومنه السابحُ في الماء، فمعنى "سبحان الله" أي: تنزيهاً له وبراءةً عمَّا لا يليقُ بجلالِه ومنه قولُ الشاعر: 342ـ أقولُ لَمَّا جاءَني فَخْرُهْ * سُبْحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخِر أي: تنزيهاً، وهو مختصٌّ بالباري تعالىٰ، قال الراغب في قولِه سبحان مِنْ علقمة: "إن أصلَه سبحانَ علقمةَ، على سبيل التهكُّم فزادَ فيه "مِنْ"، وقيل: تقديرُه: سبحانَ الله مِنْ أجل عَلْقمة"، فظاهرُ قولِه أنه يجوزُ أن يقالَ لغيرِ الباري تعالى على سبيل التهكُّم، وفيه نظرٌ. والتقديسُ: التَطْهير، ومنه الأرضُ المقدَّسَةُ، وبيت المَقْدِس، وروحُ القُدُس، وقال الشاعر: 343ـ فَأَدْرَكْنَه يَأخُذْنَ بالساقِ والنَّسا * كما شَبْرَقَ الوِلْدَانُ ثوبَ المَقْدِسِ أي: المطهَّرُ لهم. وقال الزَمخشري: "هو مِنْ قَدَّسَ في الأرضِ إذا ذهبَ فيها وأبعدَ، فمعناه قريبٌ من معنى نُسَبِّح". انتهى. قوله تعالى: {قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أصلُ إنِّي: إنني فاجتمع ثلاثةُ أمثال، فحذَفْنا أحدَها، وهل هو نونُ الوقايةِ أو النونُ الوسطى؟ قولان الصحيحُ الثاني، وهذا شبيهٌ بما تقدَّم في {إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] وبابه. والجملة في محلِّ نصبٍ بالقولِ، و "أعلمُ" يجوزُ فيه أن يكونَ فعلاً مضارعاً وهو الظاهرُ، و "ما" مفعولٌ به، وهي: إمَّا نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ، وعلى كلِّ تقديرٍ فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِه الشروطَ أي: تعلمونَه، وقال المهدوي، ومكي وتبعهما أبو البقاء: "إنَّ" أعلمُ "اسمٌ بمعنى عالم" كقوله: 344ـ لَعَمْرُكَ ما أدري واني لأوْجَلُ * على أيِّنا تَعْدُو المنيَّةُ أَوَّلُ فـ "ما" يجوزُ فيها أن تكونَ في محلِّ جرٍّ بالإِضافةِ أو نصبٍ بـ "أَعْلَمُ" ولم يُنوَّنْ "أعلمُ" لعدمِ انصرافِه، نحو: "هؤلاء حَوَاجُّ بيتَ الله" وهذا مبنيٌّ على أصلَيْن ضعيفينِ، أحدُهما: جَعْلُ أَفْعَل بمعنى فاعِل من غير تفضيلٍ، والثاني أنَّ أفْعل إذا كانت بمعنى اسمِ الفاعل عَمِلَتْ عملَه، والجمهورُ لا يثبتونها. وقيل: "أعلمُ" على بابها من كونِها للتفضيلِ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، أي: أعلمُ منكم، و "ما" منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه أفعل، أي: علمتُ ما لا تعلمون، ولا جائزٌ أن يُنْصَبَ بأفعل التفضيلِ لأنه أضعفُ من الصفةِ التي هي أضعفُ من اسمِ الفاعلِ الذي هو أضعفُ من الفعلِ في العملِ، وهذا يكونُ نظيرَ ما أَوَّلوه من قول الشاعر: 345ـ فلم أَرَ مثلَ الحيِّ حَيَّاً مُصَبَّحاً * ولا مثلَنا يومَ التَقَيْنَا فوارِساً أَكَرَّ وأَحْمىٰ للحقيقةِ منهمُ * وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القوانِسا فالقوانسَ منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر، أي بـ "ضَرَب"، لا بـ "أَضْرَبَ"، وفي ادِّعاء مثلِ ذلك في الآيةِ الكريمةِ بُعْدٌ لحذفِ شيئين: المفضَّلِ عليه والناصبِ لـ "ما". |
قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا}.. هذه الجملةُ يجوز إلاَّ يكونَ لها مَحَلٌّ من الإِعرابِ لاستئنافِها، وأنْ يكونَ محلُّها الجرَّ لعطفِها على "قال ربك". و "عَلَّم" هذه متعديةٌ إلى اثنين، وكانت قبلَ التضعيفِ متعديةً لواحدٍ لأنها عرفانيةٌ، فتعدَّت بالتضعيفِ لآخرَ، وفَرَّقوا بين "عَلِم" العُرْفانيةِ واليقينيةِ في التعديةِ، فإذا أرادوا أن يُعَدُّوا العرفانيةَ عَدَّوْها بالتضعيف، وإذا أرادوا أن يُعَدُّوا اليقينيةَ عَدَّوْها بالهمزةِ، ذكر ذلك أبو علي علي الشلوبين، وفاعلُ "عَلَّم" يعودُ على الباري تعالى، و "آدمَ" مفعولُه. وفيه ستةُ أقوال، أرجحُها [أنه] اسمٌ أعجميٌّ غيرُ مشتقٍّ، ووزنُه فاعَل كنظائِره نحو: آزَر وشالَح، وإنما مُنع من الصرفِ للعَلَمِيَّة والعجمةِ الشخصيةِ، الثاني: أنه مشتقٌّ من الأُدْمَة، وهي حُمْرَةٌ تميلُ إلى السوادِ، الثالث: أنه مشتقٌّ من أَديمِ الأرض، [وهو أوجَهُها ومُنِعَ من الصَّرْف على هذين القولين للوزنِ والعلميةِ. الرابعُ: أنه مشتقٌّ من أديمِ الأرض] أيضاً على هذا الوزنِ أعني وزنَ فاعَل وهذا خطأ، لأنه كان ينبغي أن يَنْصَرِفَ. الخامس: أنه عِبْرِيٌّ من الإِدام وهو الترابُ. السادس: قال الطبري: "إنه في الأصل فِعْلٌ رباعي مثل: أَكْرَم، وسُمِّي به لغرضِ إظهارِ الشيء حتى تُعْرَفَ جِهتُه" والحاصلُ أنَّ ادِّعاءَ الاشتقاق فيه بعيدٌ، لأنَّ الأسماءَ الأعجميةَ لا يَدْخُلُها اشتقاقٌ ولا تصريفٌ، وآدمُ وإن كانَ مفعولاً لفظاً فهو فاعِلٌ معنى، و "الأسماءَ" مفعولٌ ثانٍ، والمسألةُ من باب أعطى وكسا، وله أحكامٌ تأتي إن شاء الله تعالى. وقُرئ: "عُلِّم" مبنياً للمفعول، و "آدمُ" رفعا لقيامهِ مَقامَ الفاعلِ. و "كلَّها" تأكيدٌ للأسماء تابعٌ أبداً، وقد يلي العواملَ كما تقدَّم. وقولُه "الأسماء كلَّها" الظاهرُ أنه لا يَحْتَاج إلى ادِّعاءِ حَذْفٍ، لأنَّ المعنى: وَعلَّم آدَمَ الأسماءَ، [ولم يُبَيِّنْ لنا أسماءً مخصوصةً، بل دَلَّ كلُّها على الشمولِ، والحكمةُ حاصلةٌ بتعلُّمِ الأسماءِ]، وإنْ لم يَعْلَمْ مُسَمَّياتِها، أو يكونُ أَطْلَقَ الأسماءَ وأراد المسميَّات، فعلى هذين الوجهين لا حَذْفَ. وقيل: لا بدَّ من حذفٍ واختلفوا فيه، فقيل: تقديرُه: أسماءَ المسمَّيات، فَحُذِفَ المضافُ إليه للعلم. قال الزمخشري: "وعُوَِّض منه اللامُ، كقوله تعالى: {وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] ورُجِّح هذا القول بقولِه تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ ... فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 31-33] ولم يَقُل: أنبئوني بهؤلاءِ فلمَّا أنبأهم بهم. ولكن في قوله: وعُوَّض منه اللام" نظرٌ، لأن الألف واللام لا يَقُومان مقامَ الإِضافةِ عند البصريين. وقيل: تقديرُه مُسَمَّياتِ الأسماء، فَحُذِف المضافُ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه، ورُجِّح هذا القولُ بقولِه تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} لأن الأسماءَ لا تُجْمَع كذلك، فدلَّ عَوْدَه على المسميَّاتِ. ونحوُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] تقديرُه: أو كذي ظُلُمات، فالهاءُ في "يَغْشَاه" تعودُ على "ذي" المحذوفِ. قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ} "ثم" حرفٌ للتراخي كما تقدَّم، والضميرُ في "عَرَضَهُمْ" للمسمِّياتِ المقدَّرةِ أو لإِطلاقِ الأسماءِ وإرادةِ المسمَّيات، كما تقدَّم. وقيل: يعودُ على الأسماءِ ونُقِل عن ابنِ عباس، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأ: "عَرَضَها وعَرَضَهُنَّ" إلا أنَّ في هذا القول جَعْلَ ضميرِ غير العقلاء كضمير العقلاءِ، أو نقول: إنما قال ابن عباس ذلك بناءً منه أنّه أطلقَ الأسماء وأراد المسمَّيات كما تقدَّم وهو واضحٌ. و "على الملائكة" متعلق بـ "عرضهم". قوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ} الإِنباءُ: الإِخبارُ، وأَصلُ "أنبأ" أن يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجر كهذه الآية، وقد يُحْذَفُ الحرفُ، قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا} [التحريم: 3] أي: بهذا وقد يتضمَّن معنى "أَعْلَم" اليقينية، فيتعدَّى تعديتَهَا إلى ثلاثةِ مفاعيل، ومثلُ أنبأ: نَبَّأ وأخبر، وخبَّر وحدَّث. و "هؤلاء" في محلِّ خفضٍ بالإِضافة, وهو اسمُ إشارة ورتبتُه دنيا، ويُمَدُّ ويُقْصَرُ، كقولِه: 346ـ هَؤُلا ثُمَّ هَؤُلا كُلاًّ أعطَيْـ * ـتَ نِعالاً محْذُوَّة بمِثالِ والمشهورُ بناؤُه على الكسرِ، وقد يُضَمُّ وقد يُنَوَّنُ مكسوراً، وقد تُبْدَلُ همزتُه هاءً، فتقولُ: هَؤُلاه، وقد يقال: هَوْلا، كقوله: 347ـ تجلَّدْ لا يَقُلْ هَوْلا هَذَا * بكَى لَمَّا بكىٰ أَسَفا عليكما ولامُه عند الفارسي همزةٌ فتكونُ فاؤُه ولامُه من مادةٍ واحدةٍ، وعند المبرِّد أصلُها ياءٌ وإنما قُلِبَتْ همزةً لتطرُّفها بعد الألفِ الزائدة. قوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قد تقدَّم نظيره، وجوابُه محذوف أي: إنْ كنتمْ صادقين فأنبئوني، والكوفيون والمبرد يَرَوْنَ أنَّ الجوابَ هو المتقدِّمُ، وهو مردودٌ بقولِهِم: "أنتَ ظالمٌ إن فعلْتَ" لأنه لو كان جواباً لوَجَبَت الفاءُ معه، كما تَجِبُ متأخراً، وقال ابن عطية: "إنَّ كونَ الجوابِ محذوفاً وهو رأيُ المبرد وكونَه متقدِّماً هو رأيُ سيبويه" وهو وَهْمٌ. |
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد |