الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }

الحق - سبحانه وتعالى - يمتنّ ببعض خَلْقه، ولا يمتن الله إلا بشيء عظيم ونعمة من نعمه على عباده، ومن ذلك الليل والنهار، وقد أقسم سبحانه بهما في قوله تعالى:وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [الليل: 1-2]. وقال:وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] فالليل والنهار آيتان متكاملتان، ليستا متضادتين، فالأرض خلقها الله ليعمرها خليفته فيها:هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.. } [هود: 61]. أي: طلب منكم عمارتها بما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة، فالعقل المدبر، والجوارح الفاعلة، والقوة، والمادة كلها مخلوقة لله تعالى، وما عليك إلا أنْ تستخدم نِعَم الله هذه في عمارة أرضه، فإذا ما تَمَّتْ الحركة في النهار احتاج الجسم بعدها إلى الراحة في الليل. لذلك كان النوم آية عُظْمى من آيات الله للإنسان تدلّ على أن الخالق - عز وجل - أمين على النفس أكثر من صاحب النفس. لذلك نرى البعض مِنّا يُرهِق نفسه في العمل، ولا يعطي لجسده راحته الطبيعية، إلى أنْ يصيرَ غير قادر على العمل والعطاء، وهنا يأتي النوم كأنه رادع ذاتيٌّ فيك يُجبرك على الراحة، ويدقُّ لك ناقوس الخطر: أنت لست صالحاً الآن للعمل، ارحم نفسك وأعطها حقَّها من الراحة، فإنْ حاولتَ أنت أنْ تنام قبل وقت النوم يتأبَّى عليك ولا يطاوعك، أما هو فإنْ جاء أخذك من أعتى المؤثرات. وغلبك على كل شيء فتنام حتى على الحصى. وفي المثل العربي: فراش المتعبَ وطيء، وطعام الجائع هَنِيء أي: حين ينام الإنسان المتعَب المجهد ينام، ولو على الحصى، ولو دون أيِّ وسائل للراحة، ومع ذلك ينام نَوْمة مريحة. وفي المثَل أيضاً: النوم ضيف، إنْ طلبتَه أعْنَتَكَ، وإنْ طلبك أراحك والحق سبحانه يُحدِّثنا عن آية النوم في موضع آخر:وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ.. } [الروم: 23]. وهنا احتياط ومَلْحظ، فإنْ كان النوم بالليل للسكن وللراحة، فهناك مَنْ يعملون بالليل، فينامون بالنهار كالحرّاس ورجال الشرطة والخبازين وغيرهم، وهؤلاء لا مانعَ أن يناموا بالنهار ليسايروا حركة الحياة. ثم يقول تعالى: { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ.. } [الأنبياء: 33] نعم هناك آيات أخرى كثيرة في كَوْن الله، لكن أوضحها وأشهرها: الشمس والقمر فهما تحت المشاهدة { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] فالليل والنهار والشمس والقمر يدور كُلٌّ منهم خَلْف الآخر ويخلفه، كما قال سبحانه:وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً.. } [الفرقان: 62]. وكلمة { يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] تعبير قرآني دقيق للأداء الحركي، وهي مأخوذة من سبحة السمك في الماء حيث يسبح السمك في ليونة الماء بحركة انسيابية سهلة لأن الحركة لقطع المسافات إما حركة إنسيابية، وإما حركة قفزية. وتلاحظ هاتين الحركتين في عقارب الساعة، فلو لاحظت عقرب الثواني مثلاً لوجدّتَه يتحرّك حركة قفزية، يعني: ينطلق من الثبات إلى الحركة إلى الثبات، فالزمن فيه جزء للحركة وجزء للسكون.

السابقالتالي
2