الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }

وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } الحج 47 وقولهيدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } السجدة 5، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش، وما هو ببعيد، وإن كان مخالفاً لما في التّوراة، وقيل المراد في ستّة أوقات، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالىومن يولهم يومئذ دبره } الأنفال 16 أي حين إذ يلقاهم زَحْفاً، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَماً بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها، وأيّاً مّا كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن. والاستواء حقيقتهُ الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريلفاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى } النجم 6 ـــ 8. والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذا الآية. ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن هنا. وفي يونس، والرّعد، وطه، والفرقان، وألـم السجدة، والحديد، وفُصِّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون. فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا. وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحثثٍ ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملاً، ويسمّون أمثالَها بالمتشابهات، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفاً، وقد بيّنتُ أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالىوأخر متشابهات } في سورة آل عمران 7، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في المدارك عن سفيان بن عيينة أنّه قال سأل رجل مالكاً فقال الرّحمانُ على العرش استوى.

PreviousNext
1 2 4 5 6 7 8