الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلهايا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلط عليهم } التوبة 73 على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة أحدها آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالىوقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } التوبة 36، وقولهالشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } البقرة 194، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين. النوع الثاني آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّداً بغاية آيةِحتى يعطوا الجزية } التوبة 29 وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه { لا إكراه في الدين }. النوع الثالث مَا غُيِّيَ بغاية كقوله تعالىوقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } البقرة 193، فيتعين أن يكون منسوخاً بهاته الآية وآيةِحتى يعطوا الجزية } التوبة 29 كما نُسخ حديثُ " أمرتُ أن أقاتل الناس " هذا ما يظهر لنا في معنى الآية، والله أعلم. ولأهل العلم قبلنا فيها قولان الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى هي منسوخة بقولهيأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين } التوبة 73، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلاّ به. ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص. والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم العربَ على الإسلام، يعارضه أنّه عليه السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار، فوجه الجمع هو التنصيص. القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان، وإلى هذا مال الشافعي فقال إنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب والمجوسِ. قال ابن العربي في الأحكام «وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنسٍ يَحمل الآية عليه»، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مِقلاتاً ــــــ أي لا يعيش لها ولد ــــــ تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى { لا إكراه في الدين }. وقال السدي نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حُصَين من بني سلِمة بن عَوف وله ابنان جاء تجّار من نصارى الشام إلى المدينة فدعَوْهما إلى النصرانية، فتنصّرا وخرجا معهم، فجاء أبوهما فشكا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلب أن يبعث من يردّهما مكرهين فنزلت { لا إكراه في الدين } ، ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال.

PreviousNext
1 3 4