فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، وفي الأخبار ما يؤيده، وللبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه. قوله تعالى { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } اليوم يوم القيامة والظرف متعلق بمقدر أي اذكر يوم كذا، والإِمام المقتدى وقد سمى الله سبحانه بهذا الإِسم أفراداً من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله{ قال إني جاعلك للناس إماماً } البقرة 124 وقوله{ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } الأنبياء 73 وأفراداً آخرين يقتدى بهم في الضلال كما في قوله{ فقاتلوا أئمة الكفر } التوبة 12. وسمى به أيضاً التوراة كما في قوله{ ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة } الأحقاف 12، وربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعه ككتاب نوح وإبراهيم وعيسى ومحمد عليه السلام جميعاً أئمة. وسمى به أيضاً اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى{ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } يس 12 ولما كان ظاهر الآية أن لكل طائفة من الناس إماماً غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الإِمام إلى الضمير الراجع إلى كل أُناس لم يصلح أن يكون المراد بالإِمام في الآية اللوح لكونه واحداً لا اختصاص له بأُناس دون أُناس. وأيضاً ظاهر الآية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعاً من الأولين والآخرين وقد تقدم في تفسير قوله تعالى{ كان الناس أُمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب } البقرة 213 أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو كتاب نوح عليه السلام ولا كتاب قبله في هذا الشأن، وبذلك يظهر عدم صلاحية كون الإِمام في الآية مراداً به الكتاب وإلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية. فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل أُناس من يأتمون به في سبيلى الحق والباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة وهو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبياً كان كابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام أو غير نبي، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } البقرة 124. لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون وهو من أئمة الضلال{ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } هود 98، وقوله{ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم } الأنفال 37 وغيرهما من الآيات وهي كثيرة، أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، ولازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة والإِحضار. على أن قوله { بإمامهم } مطلق لم يقيد بالإِمام الحق الذي جعله الله إماماً هادياً بأمره، وقد سمى مقتدى الضلال إماماً كما سمى مقتدى الهدى إماماً وسياق ذيل الآية والآية الثانية أيضاً مشعر بأن الإِمام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماماً واقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للإِمامة ونصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه.