الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }

{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } كان المناديَ جبريلُ عليه الصلاة والسلام كما تُفصح عنه قراءةُ من قرأ فناداه جبريلُ، والجمع كما في قولهم: فلان يركب الخيلَ ويلبَس الثياب وما له غيرُ فرس وثوب، قال الزجاج: أي أتاه النداءُ من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل: لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسَهم عَبّر عنه باسم الجماعة تعظيماً له وقيل: الرئيسُ لا بد له من أتباع فأسند النداء إلى الكل مع كونه صادراً عنه خاصة وقرىء { فنادِاه } بالإمالة { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء مقرِّرةٌ لما أفاده الفاءُ من حصول البِشارة عَقيب الدعاء، وقوله تعالى: { يُصَلّى } إما صفةٌ لقائمٌ أو خبرٌ ثانٍ عند من يرى تعدُّدَه عند كونِ الثاني جملةً كما في قوله تعالى:فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [طه، الآية 20]أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حالٌ من المستكنِّ في قائم وقوله تعالى: { فِى ٱلْمِحْرَابِ } أي في المسجد أو في غرفةِ مريمَ متعلق بـيصلي أو بقائم على تقدير كونِ يصلّي حالاً من ضمير قائمٌ لأن العامل فيه وفي الحال حينئذ شيء واحد فلا يلزم الفصلُ بالأجنبـي كما يلزم على التقادير الباقية.

{ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } أي بأن الله وقرىء بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مُجراه لكونه نوعاً منه وقرىء يُبْشِرُك من الإبشار ويَبْشُرُك من الثلاثي وأياً ما كان ينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكياً بعبارته عن الله عز وجل على منهاج قوله تعالى:قُلْ يٰعِبَادِى ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر، الآية 53] الآية، كما يلوح من مراجعته عليه الصلاة والسلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك، والعدولُ عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجري على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء: أميرُ المؤمنين يرسُم لك بكذا وللإيذان بأن ما حُكي هناك من النداء والتبشير وما يترتّب عليه من المحاورة كان كلُّ ذلك بتوسط الملك بطريق الحِكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر، وبهذا يتضح اتحادُ المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل. ويحيـى اسمٌ أعجمي وإن جعل عربـياً فمنعُ صرفه للتعريف ووزن الفعل.

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما سُمّي يحيـى لأن الله تعالى أحيا به عُقرَ أمِه. وقال قتادة: لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان، قال القرطبـيُّ: كان اسمُه في الكتاب الأول حيا، ولا بد من تقدير مضافٍ يعود إليه الحالُ أي بولادة يحيـى فإن التبشيرَ لا يتعلق بالأعيان { مُصَدّقاً } حال مقدرة من يحيـى { بِكَلِمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ } أي بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما سمي كلمة لأنه وجد بكلمة كائنة منه تعالى قيل: هو أولُ من آمن به وصدق بأنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه وقال السدي: لقِيَتْ أم يحيـى أم عيسى فقالت: «يا مريم أشَعرتِ بحبَلي؟»، فقالت مريم: «وأنا أيضاً حُبلى»، قالت: «فإني وجدتُ ما في بطنك»، فذلك قوله تعالى: { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ } [آل عمران، الآية 39] الخ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن يحيـى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهرٍ»، وقيل: بثلاث سنين، وقتل قبل رفعِ عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرةٍ وعلى كل تقديرٍ يكون بـين ولادة يحيـى وبـين البشارة بها زمانٌ مديد لما أن مريمَ ولَدت وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنة أو بنتُ عشرِ سنين وقيل: { بِكَلِمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ } أي بكتابِ الله سمّي كلمةً كما قيل: كلمة الحويدرة لقصيدته { وَسَيّدًا } عطفٌ على مصدقاً أي رئيساً يسود قومَه ويفوقهم في الشرف وكان فائقاً للناس قاطبةً فإنه لم يُلِمَّ بخطيئة ولم يَهُمَّ بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها { وَحَصُورًا } عطف على ما قبله أي مبالِغاً في حصر النفس وحبسِها عن الشهوات مع القدرة، روي أنه مرَّ في صباه بصبـيان فدعَوْه إلى اللعب فقال: «ما لِلَّعب خُلِقْتُ» { وَنَبِيّا } عطف على ما قبله مترتب على ما عُدِّد من الخصال الحميدة { مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } أي ناشئاً منهم لأنه كان من أصلاب الأنبـياء عليهم الصلاة والسلام أو كائناً من جملة المشهورين بالصلاح كما في قوله تعالى:

السابقالتالي
2