الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا، وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَـٰبِ مَرْيَمَ } وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران، وأنها نذرتها محررة، أي تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلكفَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } آل عمران 37 ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهرهكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } آل عمران 37 فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في سورة آل عمران، فلما أراد الله تعالى، وله الحكمة والحجة البالغة، أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أي اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها، وقيل لغير ذلك. قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت، والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك فـ { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } قال خرجت مريم مكاناً شرقياً، فصلوا قبل مطلع الشمس، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضاً حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر، عن ابن عباس قال إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى { ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة { مَكَاناً شَرْقِياً } شاسعاً منتحياً، وقال محمد بن إسحاق ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه، فالله أعلم. وقوله { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } أي استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام، { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } أي على صورة إنسان تام كامل.

السابقالتالي
2 3