الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن، فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرىنَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } الشعراء 193 - 194 وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي ابن كعب قال إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام، وهو الذي تمثل لها بشراً سوياً، أي روح عيسى، فحملت الذي خاطبها، وحل في فيها، وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي، { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب، خافته، وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت { إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولاً بالله عز وجل. قال ابن جرير حدثني أبو كريب، حدثنا أبو بكر عن عاصم قال قال أبو وائل، وذكر قصة مريم، فقال قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت { إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أي فقال لها الملك مجيباً لها، ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي بعثني الله إليك، ويقال إنها لما ذكرت الرحمن، انتفض جبريل فرقاً، وعاد إلى هيئته، وقال " إنما أنَا رسولُ ربك ليهب لك غلاماً زكياً " هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء، وقرأ الآخرون { لأَِهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّاً } وكلا القراءتين له وجه حسن، ومعنى صحيح، وكل تستلزم الأخرى، { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ } أي فتعجبت مريم من هذا، وقالت كيف يكون لي غلام؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني؟ ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور، ولهذا قالت { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } والبغي هي الزانية، ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي، { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً، وإن لم يكن لك بعل، ولا توجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، ولهذا قال { وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ } أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى، فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فلا إله غيره، ولا رب سواه.

PreviousNext
1 3