الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً }

فيه أربع مسائل: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } يُقال: كان الناس يتزوّجون ٱمرأة الأبِ برضاها بعد نزول قوله تعالىٰ: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } حتى نزلت هذه الآية: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } فصار حراماً في الأحوال كلها لأن النكاح يقع على الجماع والتزوّج، فإن كان الأب تزوج ٱمرأة أو وطئها بغير نكاح حرّمت على ٱبنه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالىٰ. الثانية ـ قوله تعالىٰ: { مَا نَكَحَ } قيل: المراد بها النساء. وقيل: العقد، أي نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصّل شروطه. وهو اختيار الطبري. فـ «مِنْ» متعلقة بـ «ـتَنْكِحُوا» و { مَا نَكَحَ } مصدر. قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللآتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع «ما» «من». فالنهي على هذا إنما وقع على ألاّ ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد. والأوّل أصح، وتكون «ما» بمعنى «الذي» و «من». والدليل عليه أن الصحابة تلقّت الآية على ذلك المعنى ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء. وقد كان في العرب قبائل قد ٱعتادت أن يخلف ٱبن الرجل على ٱمرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترىٰ أن عمرو بن أُمية خلف على ٱمرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافراً وأبا مُعيط، وكان لها من أُمية أبو العِيصِ وغيره فكان بنو أُمية إخوة مُسَافِر وأبي مُعِيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أُمية بن خَلَف تزوّج بعد أبيه ٱمرأته فاخِتَة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أُمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زَبّان خلف على مُلَيْكَةَ بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زَبَّان بن سَيّار. ومن ذلك حِصْن بن أبي قيس تزوّج ٱمرأة أبيه كُبَيْشَة بنت مَعْن. والأسود بن خلف تزوّج ٱمرأة أبيه. وقال الأشعث بن سَوّار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ٱبنه قيس ٱمرأة أبيه فقالت: إني أعدّك ولداً، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. وقد كان في العرب من تزوّج ٱبنته، وهو حاجب بن زُرَارَة تمَجَّس وفعل هذه الفعلة ذكر ذلك النضر ابن شُمَيْل في كتاب المثالب. فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة. الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي تقدّم ومضى. والسلف: من تقدّم من آبائك وذوي قرابتك. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه. وقيل: «إلاَّ» بمعنى بَعْدُ، أي بعدما سلف كما قال تعالىٰ:

السابقالتالي
2