الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

روي هذا القول عن عليّ وابن مسعود، ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوريّ وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حَيّ، وإليه ذهب إسحاق. والقول الثالث: أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدّي جميع كتابته فقد مات عبداً، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته لأن لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبداً وماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته لأنه محال أن يَعتِق عبد بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعَوْا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدّوا عَتَقوا لأنهم كانوا فيها تَبَعاً لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رَقُّوا. هذا قول الشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة. قوله تعالى: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أُبَيّ، وكانت له جاريتان إحداهما تسمى مُعاذة والأخرى مُسَيْكة، وكان يُكرههما على الزنى ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين. ومعاذة هذه أمُّ خولة التي جادلت النبيّ صلى الله عليه وسلم في زوجها. وفي صحيح مسلم عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أُبَيّ يقال لها مُسَيكة وأخرى يقال لها أمَيمة فكان يُكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ ـ إلى قوله ـ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. قوله تعالى: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } راجع إلى الفَتَيات، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصُّن فحينئذٍ يمكن ويتصوّر أن يكون السيد مكرهاً، ويمكن أن ينهى عن الإكراه. وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنى. فهذا أمر في سادة وفتيات حالُهم هذه. وإلى هذا المعنى أشار ابن العربي فقال: إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصوّر الإكراه فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصوّر إكراه، فحصِّلُوه. وذهب هذا النظرُ عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله: «إن أردن تحصُناً» راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصناً. وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: «إن أردن» مُلْغًى، ونحو ذلك مما يَضْعُف. والله الموفق. قوله تعالى: { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي الشيء الذي تَكْسِبه الأَمَة بفرجها، والولد يُسترقّ فيباع. وقيل: كان الزاني يفتدِي ولده من المزنيّ بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها. قوله تعالى: { وَمَن يُكْرِههُنَّ } أي يقهرهن. { فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ } لهن { رَّحِيمٌ } بهن. وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير «لهن غفور» بزيادة لهن. وقد مضى الكلام في الإكراه في «النحل» والحمد لله. ثم عدّد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات، وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه.

PreviousNext
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10