الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }

فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا } قرأ الجماعة «فَأَزَلَّهما» بغير ألف، من الزلَّة وهي الخطيئة أي ٱستزلهما وأوقعهما فيها. وقرأ حمزة «فأزالهما» بألف، من التَّنحية أي نَحّاهما. يقال: أزلته فزال. قال ٱبن كَيْسان: فأزالهما من الزوال أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية. قلت: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنًى، إلاّ أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزْلَلْته فَزَلَّ. ودلّ على هذا قولُه تعالى:إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [آل عمران: 155]، وقوله: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ } والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزّلل بالمعصية وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته على إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سبباً إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما مِن زلّ عن المكان إذا تنحّى فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال. قال ٱمرؤ القيس:
يَزِلّ الغلاَمُ الخِفُّ عن صَهَوَاتِه   ويُلْوِي بأثواب العَنيفِ المثقَّلِ
وقال أيضاً:
كُمَيْتٍ يُزِلّ اللِّبْدُ عن حال مَتْنِهِ   كما زلّت الصّفْواء بالمتنزِّل
الثانية: قوله تعالى: { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: «فأخرجهما» تأكيد وبيان للزوال إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض لأنهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس ـ لعنه الله ـ إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أُبعد هو فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ٱزداد سُخْنة عَين وغَيظ نفس وخَيبة ظنّ. قال الله جلّ ثناؤه:ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 122] فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جاراً له في داره فكم بين الخليفة والجار! صلى الله عليه وسلم. ونسب ذلك إلى إبليس لأنه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولّي إغواء آدم وٱختلف في الكيفية، فقال ٱبن مسعود وٱبن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة ودليل ذلك قوله تعالى:وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [الأعراف: 201] والمقاسمة ظاهرها المشافهة. وقال بعضهم، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن مُنَبِّه: دخل الجنة في فم الحيّة وهي ذات أربع كالبُخْتِيّة من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يُدخله إلا الحيّة فلما دخلت به الجنة خرج من جَوْفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حوّاء فقال: ٱنظري إلى هذه الشجرة، ما أطيبَ ريحَها وأطيب طعمَها وأحسن لونَها! فلم يزل يُغويها حتى أخذتها حوّاء فأكلتها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9