الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }

فيه ست مسائل: الأولى: روى البخاري عن ابن عباس: أول ما ٱتخذ النِّساء المِنْطَق من قِبل أم إسمعيل ٱتخذت مِنْطَقاً لتُعفِّي أَثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسمعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دَوْحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيمُ منطلقاً فتبعته أمّ إسمعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا يُضيِّعنا ثم رجعت، فٱنطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنِية حيث لا يرونه، ٱستقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: «ربِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتيِ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» حتى بلغ «يَشْكُرُونَ» وجعلت أمّ إسمعيل تُرضع إسمعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفِد ما في السّقاء عطِشت وعطِش ٱبنها، وجعلت تنظر إليه يَتَلوَّى ـ أو قال يَتَلَبَّط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصَّفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم ٱستقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصَّفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طَرَف دِرْعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت الْمَرْوة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فذلك سعي الناس بينهما " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غواث! فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبَحَث بعَقِبه ـ أو قال بجناحه ـ حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سِقائها وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عينا مَعِيناً " قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها المَلَك: لا تخافي الضَّيْعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضيِّع أهله وذكر الحديث بطوله. مسألة: لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرضٍ مَضيعة ٱتكالاً على العزيز الرحيم، واقتداءً بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غُلاَة الصُّوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.

السابقالتالي
2 3 4 5