الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ }

المسألة الثانية: في تفسير ألفاظ هذه الآية، أما قوله: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } يعني أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فاستفت هؤلاء المنكرين وقل لهم { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أم هذه الأشياء التي بينا كونه تعالى خالقاً لها ولم يحك عنهم أنهم أقروا أن خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أن ظهور ذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة أن يحكى عنهم صحة أن الأمر كذلك. ثم قال تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } يعني أنا لما قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أولاً وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانياً، لما بينا أن حال القابل وحال الفاعل ممتنع التغير. وفيه دقيقة أخرى وهي أن القوم قالوا كيف يعقل تولد الإنسان لا من النطفة ولا من الأبوين؟ فكأنه قيل لهم إنكم لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن تعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين؟ فإذا عقلتم ذلك واعترفتم به فقد سقط قولكم الإنسان كيف يحدث من غير النطفة ومن غير الأبوين، وأيضاً قد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من الطين اللازب ومن قدر على خلق الحياة في الطين اللازب فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات. وأما كيفية خلق الإنسان من الطين اللازب فهي مذكورة في السورة المتقدمة، واعلم أن هذا الوجه إنما يحسن إذا قلنا المراد من قوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } هو أنا خلقنا أباهم آدم من طين لازب، وفيه وجوه أخر وهو أن يكون المراد أنا خلقنا كل إنسان من طين لازب، وتقريره أن الحيوان إنما يتولد من المني ودم الطمث والمني يتولد من الدم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي أما تولد الحيوان الذي صار غذاء فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان، فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن كل الخلق متولدون من الطين اللازب، وإذا ثبت هذا فنقول إن هذه الأجزاء التي منها تركب هذا الطين اللازب قابلة للحياة والله تعالى قادر عليها، وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصحة في كل الأوقات وهذه بيانات ظاهرة واضحة، وأما اللازب فقيل اللاصق، وقيل اللزج وقيل الحتد، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في لازب بدل من الميم يقال لازب ولازم.

PreviousNext
1